كان يوما كئيبا حينما ورد نبأ استشهاد المناضل الفذ والقائد المقدام محمد مسعد العقلة، لم أصدق ما سمعت أو أنني ما أردت أن اصدقه، كنت أحاول الاتصال وقتها وأنا على يقين أن صوته سيأتي من الطرف الآخر قويا كعادته وباسما كما هو طبعه، كنت أريد أن أقول له إنني ما صدقت الإشاعة، لكن كانت الحقيقة أمامي فاجعة وفاقعة.
رحل القائد ومات البطل وترجل الفارس، ذهب المحامي الشجاع، صوت الحق الذي كان يجلجل كلما حانت ساعة المواجهة مع الباطل، وكان هو الأقوى بما يملك من إرادة وعزيمة.
كنت أتوقع أن تنجلي الحرب في أي لحظة ونلتقي بالمحامي، وتوقعت أننا سنتحدث في لقاءاتنا المرتقبة عن المواقف الاستثنائية في هذه الحرب.. وما عرفت أننا لن نلتقي مجددا بمحمد الذي احببناه وكان جزءا منا.. ولم استوعب أنه رحل عنا بهذه السرعة، وهو الذي كان يملأ المكان حيوية بكلماته الصادقة ومواقفه الشجاعة وأخلاقه العالية.
كان يجد نفسه في كل مكان يناصر الحق والحقيقة سواء كان الحق المقدس وهو المرتبط بالأرض والتراب والوطن، او كان هذا الحق ضمن الحقوق الخاصة، فقد ظل صوت المظلومين ولسان المقهورين، لذلك وجدناه في المحاكم محاميا يصارع الظلم وفي الساحات والميادين مناضلا مقداما وقائدا جسورا. وحين تعرضت الضالع للغزو الهمجي الغاشم كان الشهيد يقف بشجاعة وصمود وشموخ في مواجهة الزحف البربري، وقف عزيزا كريما في مواجهة السفلة وشذاذ الافاق.. هم يهاجمون بحقارة وهو يدافع بشرف.
انتصرت الضالع وانتصر الجنوب وعادت عصابات البغي والإجرام ذليلة منكسرة، وأدرك الجميع أن أرضا أنجبت محمد مسعد العقلة وأمثاله هي أرض طاهرة ولن تقبل الرجس أبدا مهما كانت قوة الغزو وكيفما كانت جحافله.
كان الشهيد هناك يذود عن الحمى بسلاحه وعقيدته، كان في حياته وفي مماته يجسد أروع صور التضحية، وهل هناك ما هو أعلى واغلى من تقديم الروح رخيصة في سبيل الله دفاعا عن الأرض والأهل والوطن؟
هل كنا نتوقع أن يرحل هكذا فجأة وبدون وداع؟ لم يتوقع أحد أن يحصل هذا؛ لكنه ما كان ليتخلف عن داعي الفداء وقد صارت الحرب قدرا مقدورا على الشرفاء أمثاله. خرج وهو يعلم أنه يواجه الموت، وإن كان الموت قادما فليكن استقباله لائقا.. خرج محمد وهو يحمل الحلم روحا تسري في أعماقه، وكما كان كريما وسخيا في حياته كان كذلك وهو يستقبل الشهادة، كريما بدمائه الطاهرة وجوادا بروحه الزكية.
استقبل الموت بشجاعة تليق برجل حر وفارس كريم، ظل مرفوع الرأس عزيز المقام ومات وهو كذلك.
مضى صوت الحق ورحل حامي الحمى ومحامي الحقوق والحريات.. كانت حياته محطات نضال وجاء رحيله في أشرف محطات النضال والكفاح.
خسرنا كثيرا من الأصدقاء والأقارب في حرب المليشيات الغاشمة، لكن خسارة محمد العقلة ستظل عالقة في القلب والوجدان والذاكرة.. نفتقد روحه العظيمة كلما تذكرنا مواقفه البطولية، ومن ينسى مواقفه؟
من عرف الشهيد يصعب عليه أن ينساه.. ويعز عليه أن لا يتذكره في كل موقف نبيل وعند كل محطة مهمة.
كان محمد ناشطا يقف في صف الحقوق ومحاميا يدافع عن الحرية والثورة وعن القضية والمبادئ. كان من رجال القانون ومن أهل العقول والتجربة والخبرة رغم صغر سنه.
كان قائدا شعبيا يحب الناس. وكان مصلحا اجتماعيا يحبه الناس، كان يحمل من صفات الخير ما يكفي توزيعه على طائفة من الناس.
رحمة الله على شهيدنا الخالد في القلوب حيا كأنه لم يغادر.
وعزاؤنا لأهله ومحبيه ولأنفسنا
إنا لله وإنا إليه راجعون.