قراءة في شعر عبدالله الأحمدي (حديث الفجر)

 

صدر مؤخرا عن مؤسسة روائع للثقافة والفنون والنشر ديوان (حديث الفجر)، باكورة إبداع الشاعر الشاب/ عبدالله الأحمدي، في 126 صفحة من القطع المتوسط.

وبحسب الشاعر والناقد الأكاديمي الدكتور/ أحمد علي الهمداني – أستاذ الأدب والنقد بجامعة عدن، فــ”عبدالله الأحمدي شاعر جميل ومتمكن ظهر منذ فترة غير طويلة، وأصبح اسمه لامعاً ومعروفاً في حركة الشباب الشعرية والثقافية”.

وفي تقديمه للديوان يرى الدكتور الهمداني أن الشاعر “واحد من الأصوات البارزة التي ترسي مداميك القصيدة العمودية في اليمن”، وقصائده – مع غيره من الشباب، تدل على أن القصيدة العمودية قد أخذت تسترد عافيتها بعد غياب طويل.

يضم الديوان بين دفتيه 31 قصيدة، افتتحها الشاعر بقصيدة (دمعة على جراح الوطن)، وختمها بـ(ارسم بلادك)، منها نحو 4 قصائد تفعيلة فيما الغالبية جاءت عمودية، تم توزيعها على عدد من بحور الشعر العربي، وأهمها الكامل يليه البسيط، ثم الخفيف والرمل والوافر والمتقارب، بالإضافة إلى البحر الطويل، الذي برع فيه الشاعر كثيراً، رغم أن الديوان اشتمل على قصيدة واحدة في الطويل إلا أن قصائد أخرى لم يتضمنها الديوان جاءت في هذا البحر لتكشف عن شاعر متمكن، بالنظر إلى ما يكتنف الطويل من صعوبة جعلت كثيرين من الشعراء العرب – خاصة في العصر الحديث، يعزفون عنه، فهو- من وجهة نظر المختصين- من البحور المركبة التي تتكون من تفعيلتين مختلفتين تتكرر 4 مرات في كل شطر، (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن)، وليس مثله بحر آخر، وقد أطلق عليه أبو العلاء المعري (ملك البحور)، وينقل عنه قوله عن البحر الطويل والبحر البسيط، (ويحضر بوفرة لدى الشاعر الأحمدي)، وليس في الشعر أشرف منهما وزناً وعليهما جمهور شعر العرب وإذا اعترضت الديوان من دواوين الفحول كان أكثر ما فيه طويلاً وبسيطاً، وإليهما يعمد أصحاب الرصانة وفيهما يفتضح أهل الركاكة والهجنة وهما بمنزلة السداسي عند الإغريق والمرسل التام عند الإنجليز.

وفي حين تبدو الموسيقى الخارجية للشاعر عبدالله الأحمدي، على قدر كبير من الرصانة والتماسك، تظهر شاعريته الآسرة، وهي تمتلك مقومات الشعر، تعبيرا يمتح من معجم شعري غني بالكلمات، وتصويرا بأسلوب سلس وأخاذ، وتتجلى شاعريته في حسن تقديمه القصيدة شكلا متناسقا ومضمونا مليئا بالدلالات والرموز والصور البلاغية، ناهيك عن تحليق قصيدته في آفاق الإبداع  الرحبة وفضائه الواسع، جامعا بذلك بين الإفادة والمتعة، ليجعل من شعره رسالة ذات قيمة، سيما وأنه يكتب شعره/جراحاته بدمع عينه..

من ذلك قوله:

ألا كفوا الملامة والعتابا

وقوموا نقتفي نهجا صوابا

فإني قد كتبت بدمع عيني

جراحاتي فأبكيت الكتابَ

وإني قد نثرت مداد دمعي

على قومي وأسهبت الخطابَ

وتتجلى سمة بارزة في شعر الأحمدي، وهي سيطرة مشاعره الوطنية على ما عداها من المشاعر، بدءا بالعنونات المختارة لقصائده، وقد سبقت الإشارة إلى أن أولى قصائد الديوان حملت عنوان (دمعة على جراح الوطن)، وآخر القصائد كانت (ارسم بلادك)، وبينهما جاءت مشاعره تجاه الوطن بأكثر من صورة، بعضها مباشر وبعضها غير مباشر، أما في مجمل النصوص الشعرية فقد كانت تلك المشاعر أكثر مشاعره حضورا، فهو حين يحب، يقصر حبه على وطنه ويجعله محبوبه الوحيد:

فضاء الحب في قلبي رحيبُ

ووحدك أنت يا وطني حبيبُ

أراك مجسّدا في كل شيءٍ

كأن العين مرعاك الخصيبُ

أرى الدنيا بفقدك دون معنى

متى ما عدت فالدنيا تطيبُ

بيد أن الديوان لا يخلو من قصائد معبرة عن حب الحبيب، وما يعتلجه من شوق أو يكابده من الآلام بسبب الهجر والصد، فيخاطب طائر الأشواق في قصيدة (الشوق) قائلا:

يا طائر الأشواق حلق فوقهم

فالشوق عن أخبارهم يحدوني

عند الوداع نسجتُ أجمل قصةٍ

عن لوعتي عن حبنا المجنونِ

جراح الوطن

في عشرين بيتا من الشعر العمودي جاءت قصيدة (دمعة على جراح الوطن)، محملة بصدق الشعور وحسن التعبير، في حضرة الوطن/ الجرح، أو الوطن الجريح، معتمدا البحر البسيط، البحر ذاته الذي طالما استخدمه كبار الشعراء في قصائدهم الوطنية – كما فعل الشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري، الذي أوقف شعره على حب الوطن والنضال في سبيله، فجاءت قصائده العصماء في الغالب على وزن البحر البسيط، ومنها القصيدة الشهيرة الموسومة بـ(صيحة البعث)، وهي القصيدة التي ارتبطت بعدن مولدا ونشأة، وتأسيسا لمرحلة مهمة من مراحل النضال الوطني، ومطلعها:

سجل مكانك في التاريخ يا قلمُ

فهاهنا تبعث الأجيــال والأمـمُ

يستهل الشاعر عبدالله الأحمدي

الجوع والحرب والأمراض والفتنُ

يئنّ من بينـــها جــرحٌ هو اليمــنُ

وينطلق بشاعريته العذبة معبرا عن ما يجيش بخاطره تجاه وطنه وجراحه النازفة، ومستدعيا في سبيل ذلك الصور الجميلة والتشبيهات المناسبة والاستعارات التي تكشف عن المعاناة – ليس في منظرها الصادم، ولكن من وراء حجاب يرسم بالكلمات لوحة الجرح، وتتدفق الأبيات غنية بالمفردات والمشاعر التي تجعل النص متماسكا بوحدته الفنية وموسيقاه الآسرة، في ظلال وارفة من التكثيف الخفيف في الإشارة إلى الموضوع، مع إحاطته بالعديد من التعابير التي تضيف إلى النص كثيرا من مترادفات (الجرح) وأسبابه ومظاهره وآثاره، لتزداد الفكرة وضوحا، فالشاعر هنا يستدعي قرابة 30 من مترادفات معنى الجرح/ معاناة الوطن وأوجاعه الحاضرة، مثل: الجوع/الحرب/الأمراض/الفتن/النكسة/الضعف والوهن/الارتهان/التيه والضياع/الذل/الحزن/المآسي/ الانكسار/الهوان/الامتهان/الهم/الأهوال والمحن/المصيبة/ الأوجاع/اليأس/الصراخ والبكاء/الشحوب/الكفن.

وكما يكون الكفن هو ما يرتديه الإنسان عندما يموت ويودع الحياة الدنيا، فإن الشاعر ختم به قصيدته عن الجرح، ودمعته على جراح وطنه.

ولم يقتصر استدعاء المترادفات على الجرح فقط، ولكن الشاعر يستدعي أيضا مترادفات الوطن، مثل (اليمن/صنعاء/عدن/الأرض والسكن)، كما يستحضر رموزا تاريخية تخص الوطن الجريح، أو الوطن الذي لم يعد يُرى في الوقت الحاضر إلا جرحاً نازفاً، ومن تلك الرموز: (العرش) و(الهدهد) الذي ذكره القرآن في سياق قصة نبي الله سليمان مع ملكة اليمن في عهد سبأ، بلقيس بنت شراحيل، إذ كان الهدهد أول من نقل خبر الملكة وقومها وعرشها بقوله: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) سورة النمل.

معزوفة الأحزان

في قصيدة حملت عنوان (معزوفة الأحزان)، يسجل الشاعر عبدالله الأحمدي، مشاعر حزنه على وطنه التي تراكم بعضها فوق بعض حتى غدت معزوفة كاملة لا فكاك منها، رغم محاولاته الهروب أو النسيان على الأقل:

تناسيت أحزاني وقلبي يعيدها

لتبدي لي الأيامُ أني وليدها

يحاول أن يبني (صروحا لفرحته) لكن (جيوش القهر) سرعان ما تغير على صروحه لتبيدها وتحطمها، ويريد الوصول إلى (مدينة أحلامه) لكنها تتوارى عنه، ويتوارى هو عنها فهو وإن كان يريدها فإن أرضه التي أحاطها الحزن ترفضها وتأباها.

وفي الأبيات الأولى تحضر المقابلات تعبيرا عن مواجهة بين الشاعر وأحزانه، فمقابل (صروح الفرحة) تأتي جيوش القهر، وفي مواجهة (أبنيها) تحضر (تبيدها)، في قوله:

إذا جئت أبنيها صروحاً لفرحتــي

أغارت جيوش القهر ظلماً تبيدها

وكذلك المتقابلتان (تأبى- يريد)، في قوله:

مدينة أحلامي أراها بعيـــــدةً

فأرضي تأباها وحلمي يريدها

بينما في البيت الخامس من القصيدة تظهر معزوفة الأحزان وقد كسبت الجولة وربحت المواجهة، بعدما تورات مدينة أحلام الشاعر، وباتت:

تحوم صقور الهمّ حول قصيدتي

وإني على درب الضياع طريدها

ليعلن في البيت التالي:

سأبعث للكون الفسيح مواجعي

فقيثارة الأوجاع قلبي بريدها

غير أنه يستحضر من صفحات التاريخ المشرق مجد بلاده التي كانت تسمى (العربية السعيدة)، فيقول:

يسمونها أرض السعيدة جهرةً

فليت صدى الألقاب يوما يفيدها

كما يستحضر جَلَد اليمانيين وصبرهم الجميل في مواجهة الشدائد قائلاً:

يمانون والصبر الجميل رداؤنا

به نتقي الريح التي لا نريدها

وكما استدعى الشاعر مترادفات الأحزان ومعزوفتها مثل: صقور الهم/درب الضياع/ قيثارة الأوجاع/ زمان القهر/سيوف المنايا/الذئاب/ناب الظلم، يستحضر أيضا مترادفات مقابلة للأحزان، كـشرفات الحلم/جذوة الآمال/الأحلام والأمنيات.

ومن سطور المجد التي خلدها التاريخ في صفحاته يستلهم الدروس مقرراً:

فمن يدرك التاريخ حتماً سيعتلي

بأحلامه نحو السماء يقودها

وعند احتضار الحلم يولد عاشقٌ

لتشرق بعد الأمنيات وعودها

فبلقيس إن عاث الذئاب بعرشها

سيكسر ناب الظلم يوماً حفيدها

حضور المكان ورموزه

وفي (حديث الفجر) يحضر  المكان بدلالاته ورموزه المختلفة، معززا حضور الوطن الذي يستأثر بشعر الأحمدي ومشاعره، وسبقت الإشارة إلى حضور (صنعاء وعدن) أهم مدينتين يمنيتين منذ عشرات السنين، وحتى وقتنا الحاضر، ومدينة عدن خاصة تستأثر بحيز واسع من شعره، وفي الديوان يفرد لها قصيدة أسماها (عدن)، ويستهلها بقوله:

قد شعت الأنوار من عينيكِ

فغدت قناديلاً على خديكِ

لغة العيون بطبعها فتانةُ

لغةُ تصوغ السحر من رمشيكِ

كما تحضر رموز مكانية (تاريخية) مثل (العرش)، في إشارة واضحة لعرش بلقيس ملكة مملكة سبأ التي ذكرها القران الكريم وكثير من المصادر التاريخية المعتمدة، و(أرض السعيدة)، وهو الاسم القديم لليمن. (شبوة)، محافظة تقع جنوب شرق اليمن (ينتمي إليها الشاعر)، وعلى أرضها قامت حضارات ودول يمنية عديدة، وكانت قديما إحدى عواصم دولة (حضرموت)، المحافظة الواقعة شرق شبوة وشمالها، أما من الغرب فتحدها محافظتا أبين والبيضاء، بالإضافة إلى محافظة مأرب الواقعة شمال وشمال غرب شبوة، والمحافظات الثلاث (شبوة- حضرموت- مأرب) تتقاسم منذ القدم حضورا تاريخيا قويا، كما تتصدر اليوم محافظات اليمن من حيث الثروة والموارد الطبيعية، ومنها النفط والغاز.

لمحافظته شبوة أفرد الشاعر الأحمدي إحدى قصائده، وفيها أبان عن الحب الذي يكنه لها:

هي الغرام وباقي الحب أوهــامُ

جميع أبنائها في عشقها هاموا

كما ويعبر عن حبه لأبناء شبوة الذين استمدوا منها- بحسب الشاعر، صفات العزم والحزم والكرم والشجاعة، فيقول عنهم:

أبناؤها يركبـــون الصعب ما وهنــوا

في كـــل عسـرٍ يلوح الحاءُ واللامُ

وكذلك تحضر الكلمات الدالة على المكان سواء بصفة عامة مثل: الأطلال، المدينة، المدائن، الرياض الخضر، الديار، البلاد، الربى، الوادي، الهضاب، الضفاف والجداول، السكن والمسكن. أو تلك التي تدل على المكان بصفة خاصة ولها دلالات معينة كـ(نهر الفرات)، و(عرش بلقيس)، و(دار عبلة) وغيرها.

تعليق واحد على

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *