أرشيفات التصنيف: مقالات

14 أكتوبر.. مشعل ثورة لا يخبو وقنديل حرية لا ينطفئ

 

فؤاد مسعد

في البدء كانت الثورة

منذ انطلاق ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م وهذا التاريخ يمثل واحدة من أبرز محطات التاريخ اليمني الحديث والمعاصر، ليس لكونه اليوم المرتبط بتحقيق الإستقلال الوطني وطي صفحة الإحتلال الإنجليزي للجنوب فحسب، ولكن بما أسست له ثورة أكتوبر المجيدة من دولة حملت على كاهلها مهمة  إستئناف البناء الوطني وتحقيق أهداف الثورة وتلبية طموحات الشعب بعد توحيد ما يزيد عن عشرين سلطنة وإمارة ومشيخة، ذابت جميعها وإنصهرت في بوتقة الوحدة الوطنية، وعلى الرغم مما صاحب تلك التجربة التاريخية من معوقات وما رافقها من أخطاء، فإن الحقبة التالية لثورة أكتوبر تبقى مرحلة مفصلية في تاريخ اليمن والجنوب منه على وجه الخصوص.

يظل الرابع عشر من أكتوبر مشعل حرية متوهج و رمز تحرير لا تطمره السنون ولا يطاله النسيان مهما تغيرت الأحوال والظروف من حوله، كما وسيبقى  منارا للباحثين عن فضاء وطن لا يضيق بأبنائه ولا يصير حكرا لنفر قليل تمكنوا في لحظة ما من الإمساك بتلابيب السلطة والقوة والثروة والنفوذ وغدوا وحدهم الأوصياء على البلد يقررون نيابة عن الجميع تنصيب أنفسهم ملوكا بلا نهاية وزعماء بلا حدود.

حرب الإقصاء  تستهدف أكتوبر

منذ حرب صيف 1994م تغير الواقع في الجنوب شيئا فشيئا على الاتجاه المعاكس من ثورة أكتوبر، ونجم عن ذلك ما نجم من كوارث ومآس ٍ لم يعد أمرها خافيا على أحد، صارت قوة الغالب في الحرب التي غلبت الجميع هي عدة المنتصر المتكئة على صلف النصر المزعوم وزيف انتصاره، أدمن استخدام تلك القوة وأشهر سيف كبريائه وجنونه على الجميع، وراح يبالغ في إنزال أقصى العقوبات وأقساها بحق الشريك الذي وقع في شرك الهزيمة وطاردته لعنة حرب الوحدة حين وجد نفسه يحصد ثمار وحدة الحرب التي قال المنتصر بضرورة أن تعمد بالدم، وتعين على أولئك الذين هتفوا طويلا في طابور الصباح لأجل الوحدة أن يدفعوا ثمن الهزيمة في حرب هُزم فيها المستقبل،

وفيما كان بدأ غالبية أبناء الجنوب يجأرون بالشكوى مما طالهم من إقصاء وتهميش، كان الحاكم بأمره يزيد انتفاشا وزهوا وهو يجتر ذكرى الحرب التي قسمت البلد كلها عليه وحده لا شريك له بعد ما وجد نفسه يصول ويجول في وطن تتناقص ساحته من تحت أقدام الشركاء وترمي بهم خارج أسوار وطنهم، لتمتد أمام ناظري صاحب الفخامة وهو يجرب مختلف أشكال التضليل والدجل مثلما يقوم بتغيير أنواع النظارات التي تليق بعينيه التين تشبهان عيني غراب يبحث عن حفرة تنضح دما آسنا وفاسدا كحكمه.

بعد سنوات قليلة من الحرب المشؤومة وبعد سلسلة طويلة من ممارسات السلطة الهادفة في مجملها لطمس كل ما يمت  لثورة  أكتوبر المجيدة بصلة، حتى طال الثورة ما طال غيرها من ممارسات الضم والإلحاق حين جاءت مقولات واحدية الثورة التي سوقت ولا زالت لفكرة الزعيم الواحد، وهو وحده الذي حقق الوحدة بدون شريك، كما وهو يمثل نهاية التاريخ في مسار الثورة، إذ صار في نظر مهرجي إعلامه المناضل الذي لولاه لما كانت هناك ثورة، ولم تعدم منشورات التوجيه المعنوي شاهد زور يتكفل بتقديم الأدلة القائلة بكون فخامته أحد مفجري الثورة التي غدت تعرف باسم “الثورة الأم” بينما غيبت أدوار المناضلين والشهداء الذين قدموا أرواحهم رخيصة وهم يروون شجرة ثورة الرابع عشر من أكتوبر، وكل ذلك الطمس والإلغاء والمصادرة بحق ثوار أكتوبر يأتي في سبيل تقديم صاحب الفخامة محتكرا الوطن والثورة والوحدة والديمقراطية، حتى ولو كان هو ذاته الذي يمارس أبشع الأعمال بحق الثورة والوحدة والديمقراطية.

الحراك الجنوبي يعيد الاعتبار لثورة أكتوبر

 و كردة فعل على ممارسات نتائج الحرب التي أفرغت الوحدة من مضمونها السلمي وروحها الديمقراطية، تزايدت موجة الرفض في أوساط الطرف الذي بدا مهمشاً ومحاصراً ومطارداً في أكثر من مرفق حكومي وفي  أجهزة  كافة الدولة كما في جيشها وأمنها، و كلما زاد صراخ الضحايا أمعن الباغي في غيه وظلت العزة بالإثم طريقته المفضلة في مواجهة أصحاب الحقوق المصادرة في سادية بليدة، ومن هنا تزايد الرفض وتعالت الأصوات في مواجهة صاحب الصوت الصاخب بهدير مدافع الحرب المجنونة وهذيانها اللا متناهي،

وعلى مدى سنوات مضت كان الحاكم العسكري كلما سمع صوتا يطالب بحق أو يجهر بشكوى رفع عقيرته وأشهر سيف اتهاماته المصلت على الرؤوس: أنت يا هذا انفصالي، أنت خائن، وعميل للدوائر التي تتربص بالوطن وقائده، بقائد الوطن أو وطن القائد لا فرق.. وغيرها كثير مما لا يعد ولا يحصى من التهم التي ظلت تلوكها آلة الإعلام الرسمي.

وفيما كان الحاكم يغط في سباته العميق متكئا على انتصاراته العمياء ومنجزاته الوهمية كانت تتبلور في غالبية شوارع مدن الجنوب وقراها حركة الرفض المدوية التي صارت تعرف باسم “الحراك الجنوبي”، وفي غضون أشهر قليلة صار لها صداها القوي داخليا وخارجيا، وكانت هذه الحركة ونشاطها الدؤوب من القوة والثقة بما جعل الجميع يقر باستحالة بقاء وحدة الفيد المدعمة بقوة غاشمة لا تعرف حدود الشراكة ولا حقوقها.

ومهما يكن على الحراك الجنوبي من مآخذ ومساوئ ارتبطت ببعض عناصره او علقت في ثنايا بعض من خطاباته فيحسب له الانتصار لثورة أكتوبر، إذ كان منذ ظهوره في العام 2007م، الرافعة الجماهيرية والسياسية والإعلامية التي أعادت لأكتوبر ألقه بعد سنوات من الطمس والتغييب والمصادرة التي استهدفت في طليعة ما استهدفت ثورة أكتوبر ورموزها ومناضليها وإعلامها، وفي سبيل ذلك إستماتت أدوات الحرب في ملاحقة كل ما يتعلق بالثورة المجيدة لتصل إلى ما يمكن أن يكون قد علق في الذاكرة من محطات ومعالم ورموز وأسماء لها صلة ما بثورة أكتوبر، ولقد كان للحراك الجنوبي دوره البارز بشكل مباشر وبأشكال أخرى غير مباشرة في رد الإعتبار لهذه الثورة، والأدلة على ذلك كثيرة ومعروفة وفي مقدمتها إن كوكبة من شهداء الحراك السلمي الجنوبي قضوا وهم يستميتون دفاعاً عن ثورة أكتوبر واحتفاء بذكراها الخالدة حيث يأتي شهداء منصة ردفان في 13 أكتوبر عام 2007م كأبرز الأدلة وأقواها على ذلك.

 

  • نشر المقال في أكتوبر 2011م في صحيفة الوفاق.

 

أجراس الموت في اليمن

 

وقع أمس الأول الخميس، هجومان إرهابيان، استهدف الأول جنود الجيش في جنوب شرق البلاد ليوقع 19 قتيلا و13 جريحا، واستهدف الثاني تجمعا للحوثيين الشيعة قتل منهم قرابة خمسين شخصا، وجرح أكثر من 100 شخص، والحادثان يحملان بصمة القاعدة وتنظيمها المحلي المعروف باسم “أنصار الشريعة”،

مع أن الحرب متواصلة بين القوات الحكومية و القاعدة، لم تبد حادثة استهداف الجنود جديدة رغم مرارتها وفاجعتها، لكن استهداف الشيعة من قبل القاعدة هو ما يثير المخاوف من نشوب حرب طائفية، خاصة بعد سيطرة الميليشيا المسلحة التابعة للحوثيين على صنعاء وبدعم واضح وجلي من إيران بالمال والسلاح والخبراء.

القاعدة وفي أكثر من بيان هددت الحوثيين بعد سيطرتهم على صنعاء بعمليات مفاجئة، ومرجعيات إيرانية عديدة رأت في سقوط عاصمة اليمن في قبضة الحوثيين سقوطا لرابع عاصمة عربية في أيديهم، (بعد بغداد ودمشق وبيروت)، ومن خلال تعليقات الطرفين (القاعدة وإيران) يتبين أن اليمن سيدفع ثمن حرب قادمة، إن لم يعمل من بقي من عقلائه على تفاديها، لأن القاعدة بالتأكيد لها وجود فعلي وتمكنت في الفترة الماضية من توجيه ضربات قوية تستهدف الدولة وجيشها واقتصادها وأمنها واستقرارها، اعتمادا على ضعف الحكومة وهشاشة البنية الأمنية والعسكرية، وبالتالي فإن سيطرة ميليشيا طائفية مسلحة على مراكز القرار والتأثير السياسي والاجتماعي ستشكل أرضية مناسبة وخصبة لأعمال القاعدة، وفي العراق وسوريا خير دليل.

اليمنيون أمام خيارات عديدة جميعها صعبة.

الأمن على المحك، و الاستقرار على كف عفريت، والسلم الأهلي ربما يغدو حلما بعيد المنال في ظل التحريض والشحن الطائفي من كلا الجانبين، ناهيك عن توفير مسلحي الحوثي بيئة مناسبة بأعمالهم الاستفزازية التي تجاوزت الحدود المحظورة و الخطوط الحمراء.

الظروف التي قادت المسلحين الشيعة إلى صنعاء لم تكن يوما طبيعية ولا منطقية، لأنها اعتمدت خيار السلاح والقتل و التفجيرات منذ خروجها من معاقلها في شمال الشمال اليمني، مرورا بعدة محافظات وانتهاء بالعاصمة صنعاء، وربما لا تزال شهيتهم مفتوحة لإثارة المشاكل في مناطق الوسط و الجنوب، التي تعد معاقل سنية (شافعية) مغلقة لم يتمكن الأئمة الشيعة من الوصول إليها حتى وهم في أوج قوتهم وسطوتهم في القرون الماضية.

العملية التي نفذتها القاعدة في صفوف الحوثيين تفتح بابا جديدا للصراع الطائفي المخيف والحرب الأهلية المرتقبة، ولم يعد هناك أي رهان على الدولة العاجزة الضعيفة التي استسلمت في غضون ساعات وسلمت مقرات الحكومة لعناصر الميليشيا, كما لم يعد اليمنيون يراهنون على أي دور خارجي من المجتمع الإقليمي والدولي الذي أثبت تواطأه وعجزه منذ ثلاث سنوات تاركا اليمن يعاني المشاكل والتحديات الأمنية والسياسية و المعيشية دون أن يقوم بدور إيجابي أو يفي بتعهداته على الأقل باستثناء تصريحات دبلوماسية لا تسمن ولا تغني.

حاليا لا أحد يراهن على الرئيس المحاصر في مقر إقامته، و لا على الجيش الذي انهارت معنويات منتسبيه إلى الحضيض، و لا على الأحزاب التي عجزت عن التعبير عن موقف واضح ومعلن من سقوط دولة بأكملها في قبضة الميليشيا خوفا من تلك الميليشيا التي لم تتورع عن فعل أي عمل دنيء وغير أخلاقي، سيما وقد تصور بعضهم وهم في غرف نوم خصومهم في سابقة لم يعرفها اليمنيون من قبل.

اللهم احفظ اليمن سالما وآمنا..

اليمن يحتفل بذكرى ثورة جريحة

 

 

 

 

999

مقالي في موقع رأي اليوم  

صادف الجمعة الذكرى الـ52 لثورة سبتمبر/أيلول 1962م التي أسقطت الحكم الملكي الإمامي المسيطر على اليمن منذ الف ومائة عام،

ويبدو الاحتفال هذا العام مختلفا عن الأعوام السابقة- وربما اللاحقة- بسبب الأحداث الأخيرة التي شهدتها اليمن، فقبل أربعة أيام سيطرت جماعة الحوثي الشيعية المسلحة على أغلب مراكز ومؤسسات الدولة السيادية والعسكرية والأمنية و التعليمية و الصحية، واستولت على السلاح الثقيل بعد اقتحام المعسكرات المرابطة حول وداخل العاصمة صنعاء.

ولجماعة الحوثي التي تطلق على نفسها “أنصار الله”، صلة ارتباط فكري ومذهبي وأسري بالسلالة التي حكمت اليمن قبل الثورة، كما أن الجماعة نفسها لم تقبل الانخراط بشكل واضح في العملية السياسية، ولا تزال ترى في المواجهات المسلحة طريقها الوحيد لإثبات وجودها رغم أنها شاركت في مؤتمر الحوار الوطني الذي استمر عشرة أشهر وانتهى مطلع العام الجاري، وهو ما يثير مخاوف اليمنيين خاصة مع توارد الأدلة والقرائن التي تثبت ضلوع إيران في دعم الجماعة بالمال والسلاح، وصرح بهذا رئيس الجمهورية وكبار مسئولي الدولة أكثر من مرة.

وتعززت المخاوف والقلق بصورة أكبر حينما باشر الحوثيون اقتحام المنازل والمؤسسات العامة والخاصة ونهب بعض محتوياتها تارة بحجة محاربة القاعدة وتارة بحجة البحث عن مطلوبين للعدالة! والعدالة هذه لا صلة لها بالدولة وأجهزتها القضائية ومؤسساتها الامنية، ولكن عبدالملك الحوثي زعيم الجماعة حدد من هم المطلوبون للعدالة وبالتالي فإن عناصره مطالبة بالبحث عنهم تمهيدا لمحاكمتهم من قبل الجماعة نفسها.

جاء الاحتفال اليوم مشوبا بالخوف على مصير الثورة في ظل سيطرة من يفترض أن الثورة قامت عليهم، وما شهدته هذه الذكرى لم يكن سوى شكليات افترضتها الضرورة لا أكثر، والدليل انه تم الاحتفال رسميا في قاعة مغلقة تتبع وزارة الدفاع، لم تسلم من اقتحام الحوثيين والتقاط بعض عناصرهم صورا تذكارية وهم يجلسون على كراسي الوزارة وكبار قادة الجيش.

ورغم ان الحوثيين حاولوا أن يطمئنوا المجتمع المحلي أن سيطرتهم لا تشكل خطرا على الثورة، إن لم تكن امتدادا لها، لكن اليمنيين يدركون كيف تدير الجماعة المناطق الواقعة تحت سيطرتها بطرق بالغة القسوة تعبر عن عقليات ميليشياوية لا تأبه بالحياة العامة بقدر تركيزها على توسيع مناطق نفوذها بالحروب والصراعات التي بدأتها قبل عشرة أعوام في حدود منطقة تواجدهم في أحد أرياف محافظة صعدة.

يشعر اليمنيون- ومعهم كثير من الحقائق تعزز شعورهم– أن الحكومة المزمع تشكيلها قريبا ستكون صورية في ظل سيطرة جماعة مسلحة على القرار، والأحزاب التي عجزت عن إصدار بيان يدين ما أقدمت عليه الجماعة ذاتها لن يكون لها تأثير في المرحلة الراهنة، كما أن الكتاب والنشطاء والإعلاميين يتعرضون يوميا لانتهاكات واعتداءات وصلت حد مهاجمة منازلهم ونهبها والاستيلاء على المؤسسات الإعلامية، وتهديد المخالفين وترويع المواطنين، بل ومنازعة أجهزة الحكومة في القيام بدورها، حيث بات المسلحون الحوثيون هم من ينظم حركة المرور ويفتشون المارة، وبين من يخضعون للتفتيش مسئولون كبار وضباط وجنود في الأمن والجيش، كما منحت الجماعة نفسها حق تفتيش الطائرات والمسافرين على متنها الأمر الذي أزعج بعض شركات الطيران ودفعها لإيقاف حركتها من وإلى مطار صنعاء.

يحتفل اليمنيون اليوم بذكرى ثورة جريحة بعد خمسين عاما على انطلاقها، ويخشون عودة الماضي بكل مساوئه، خاصة وأن مؤسسات الدولة صارت تحت قبضة الميليشيا الطائفية، لقد فقد اليمنيون الأمل بالدولة وأمنها وجيشها بعد ما شاهدوا سقوطها المدوي، كما لم يعد لدى أغلب اليمنيين أي ثقة بما يمكن أن يقدمه المجتمع الدولي الذي ظل يهدد ويتوعد من يعرقلون الانتقال  السلمي في اليمن ويهددون السلم والأمن، لكنه صمت صمت القبور إزاء تمدد المسلحين وتوسعهم وسيطرتهم على محافظات بالكامل، وهو ما أغراهم وجعلهم يتوسعون في أكثر من مكان حتى تمكنوا الأحد الماضي من إحكام سيطرتهم على العاصمة صنعاء ومعسكرات الجيش وعدد من الوزارات المهمة والمؤسسات الكبرى.

 ينتظر اليمنيون معجزة تخلصهم مما آلت إليه الأوضاع، ولا شيء سيكبح جماع الميليشيا المنتشية بتحقيق نصرها العظيم كما تزعم، توجد الآن حالة رفض مجتمعي يمكن لها أن تتبلور في كيان سياسي يجمع القوى الرافضة لهيمنة السلاح، ويعمل على العودة إلى جادة العمل السياسي السلمي، وتحقيق ما يصبو إليه اليمنيون.

رغم المرارة.. حلمنا لم ينكسر

 

 

لم يعد بمقدورنا أن نكتب.. فالمرارة وحدها هي من يكتب أوجاعنا ويرسم خارطة الفجيعة، فجيعتنا التي لا حدود لها..

قبلنا بنصف ثورة خوفا من الحرب الأهلية فكانت الكارثة: ترنحت الثورة وأصبحنا على أعتاب الحرب الأهلية.

هذا هو حظ اليمنيين من الثورة، لكن هذا لا يعني أنهم أخطأوا حين ثاروا، فالنظام الذي قامت عليه الثورة كان قد استنفد جميع أغراضه ولم يعد أمامه سوى السقوط، مع ما يتبع السقوط من تداعيات وخسائر. قدر اليمنيين أن يخسروا كثيرا وهذا النظام يقوى ويشتد، مثلما عليهم أن يدفعوا الثمن غاليا والنظام ذاته يضعف ويترنح ساقطا..

 هو خطيئة اليمن الكبرى وجريمة البلد التي لن تغتفر، وستظل آثارها وأخطارها شاخصة لأمد سيطول ويطول.

هل نكون متماسكين بما يكفي للقول أن ثورتنا انتصرت؟ أم ننحني إجلالا لدماء الشهداء ومعاناة الجرحى والمعتقلين ثم نقر بالهزيمة؟

أم أننا والثورة في منزلة بين منزلتين؟ بين النصر الذي حسبناه موعدنا والهزيمة التي لا تزال تتوعدنا.

الثورة لم تنتصر ولكنها لم ولن تنكسر، وقدرها أن تتخلص وتخلصنا مما يعوق انطلاقنا نحو المستقبل طال الزمان أم قصر.

ولكن المرارة في واقعنا تتسع كلما تضاءلت مساحة الحلم الذي اجترحناه يوم قامت الثورة على النظام الآسن لتسقطه، وتشيد اليمن الجديد على أنقاضه، ثم لاحت لنا صور الخراب وأشباح الظلام، خافت الثورة، أو خفنا نحن على الثورة بينما خاف منها القتلة واللصوص، كانت جموع الثورة فوق ما تصوروا وكان رعب المجرمين من تلك الجموع أكبر مما تخيلنا.

اختلطت أهداف الثورة بمصالح الانتهازيين، وتماهت أحلام البسطاء مع أطماع الوصوليين، وكان الثوار يؤجلون شيئا من الحلم حتى لا يفقدوا مشروعهم المشروع في التغيير والتأسيس لمستقبل جديد.

كانوا يحملون الحلم بالوصول إلى بر الأمان، فيما اللصوص يحطمون المركب، حتى تسهل المقايضة بين أمن اللحظة المشهودة أو انتظار قادم لم يوجد بعد.

عادت الفجيعة تطل برأسها من جديد، وبدا تحقيق الحلم بعيدا حينما تآزرت قوى الظلم وعصابات الظلام على وأد الحلم وحامليه، وحوصرت الثورة بعد ما كانت تحاصرهم، وتجمع شمل القوى التي مزقها هتاف الثوار، ثم تنازعت قوى الثورة فيما بينها، وكل يدعي وصلا بثورة وقفت وحدها محاصرة بعد ما خذلها الجميع.

لم يعد للثورة مكان ولا كيان أيضا.

والأنكى أنها أصبحت لعنة تطارد أصحابها- وكل من ارتبط بها وارتبطت به، وأخطبوط الفساد “المحصن” يحرك أذرعه الشيطانية في كل اتجاه، أتخمته الحصانة بالأمن وجادت عليه بالسكينة، كي يتفرغ لاقتراف ما لم يقترفه أثناء حكمه.

منحته السياسة حصانة حرصا على السلام، لكنه هتك عورة السلام بحصانته، ومعه قوى تتربص في انتظار الفرصة المواتية للانقضاض على الجميع، ورأت في تردي الوضع وانهياره ما يسيل لعابها على التمدد، ويغري حملة البارود فيها على السيطرة والتوسع، حتى حانت اللحظة التي تحققت فيها نبوءة الرعب القادمة من الكهوف، وجثم الكابوس مجهزا على ما تبقى من الحلم.

في هذه اللحظة المرعبة تجمعت كل مرارات السنين القادمة والماضية، وتشكلت على هيئة سقوط في قبضة ميليشيا طائفية لم تتورع عن اقتراف أي محرم أو محظور، وهو ما يعني أننا عدنا إلى ما هو أقل من الصفر بدرجات كثيرة، وما هو أسوأ من كل القيم السالبة في مضمار المعادلة و خط سير الزمن.

هذه هي المرارة التي تتحدث اليوم نيابة عنا، وهو الشعور الذي يجعلنا نعدد مساوئ المرحلة التي أعقبت الثورة، التي هي مساوئنا نحن، لقد خضعنا للمقايضة اللعينة حتى تهاوت أهداف الثورة تحت ذريعة “التقسيط” الذي قبلنا به أول الأمر، و”الآجل” الذي صار خيارنا لاحقا.

كانت الثورة تتراجع وأطماع الميليشيا تتوسع على الأرض، فيما عصابات الفساد القديم تعيد تموضعها في مواجهة أي قادم جديد يحمل روح  الثورة أو ريحها،

أما لعنة الثورة فصارت تصيب كل ما يمت للثورة بصلة.

أهداف الثورة تأجلت، ومكوناتها اختلفت وتنازعت، وشبكات القتل والفوضى والإرهاب يقوي بعضها بعضا، القبائل التي انضمت للثورة صارت هدفا رئيسيا للميليشيا، بينما صار شيوخ الارتزاق جسرا تعبر عليه آلة القتل القادمة للانتقام من التاريخ والجغرافيا.

والجيش الذي أعلن يوما تأييده للثورة صار في مرمى سهام القتلة المأجورين، ستقول الببغاوات: هم كانوا مع صالح، ونقول نعم (كانوا)، لكن القتلة لا ينتقمون ممن (لا زالوا)، وفي اقتحام صنعاء أثبتت الميليشيا ولاءها كما يجب، تركوا كل لص لا يزال يقاتل مع (صالحهم) الذي قتل سيدهم، وهاجموا من واجهوا صالح ونظامه.

لكنا لن نخون الحلم الذي نؤمن أنه سيصبح يوما حقيقة، ولن نلعن الثورة لأنها حقيقتنا الوحيدة التي لا يمكن أن يتسرب إلينا شك فيها، ولن نستسلم لآلات الميليشيا وتضليلها.

ندرك ان تضحية اليمنيين كبيرة ولكن الوطن الذي نصبو إليه أكبر منا جميعا، وإن الكلفة لدرء الخطر الداهم ليست سهلة ولكن خطورة سيطرة القتلة الخارجين من أعماق الكهوف المظلمة ستكون أكثر كلفة من رفضها.

لا للعنف و الاستقواء بلغة السلاح

 

 

أثبت التاريخ أن لدى اليمنيين قدرة كبيرة على تجاوز خلافاتهم وحروبهم في حالات صفاء وتوافق كثيرا ما حدثت في أعقاب حروب شرسة.
و نلاحظ أنه مهما بلغ حجم الضحايا والخسائر تبدو الروح الجماعية اليمنية أقرب للوفاق والتسامي فوق الجراح، و لنا خير شاهد على ذلك في اتفاقيات ولقاءات ومصالحات وقعت بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر وصولا للوحدة وما تلاها من صراعات و مصالحات.
و ما نشير إليه هنا ينطبق بشكل أكثر على الحروب والصراعات ذات الطابع السياسي، لكن لا يبدو الأمر كذلك في الصراعات التي تستهدف النسيج الإجتماعي الوطني، و بأدوات طائفية و مذهبية و نزعات استئصالية مدمرة، لأن الجرح هنا يأخذ بعدا أعمق وآثاره على المستوى الشخصي أو على المستوى المجتمعي تبقى متحفزة ومتوثبة للحظات الثأر والانتقام ممن كان يوما خصمها.
هل يدرك هذا من يدقون طبول حرب تقسم الشعب المتعايش إلى فرق متناحرة وفصائل متقاتلة، وتحيل الإخوة أعداء؟

اليمنيون أمام تحدي بناء الدولة الجديدة

 

نشر المقال في موقع رأي اليوم 

منذ اندلاع الثورة الشعبية السلمية في فبراير/شباط2011 واليمنيون لا يكفون عن التطلع لبناء الدولة الجديدة، مراهنين في ذلك على ما أحدثته الثورة نفسها من اختراق قوي لجدار النظام الذي بدا لسنوات طويلة قويا وعصيا على التغيير، بحكم التجربة الطويلة التي خاضها ونجح في مراحل عديدة منها في ترويض الخصوم، وتفكيك الجبهات من حوله جبهة إثر أخرى،                 وبفعل الظروف والملابسات الخاصة باليمن وقواها المختلفة امتدت مرحلة الثورة شهورا ناهزت السنة حتى اقر النظام الحاكم بنصف هزيمة، وقبل بنصف مغادرة، أوبتسليم نصف مقاعد حكومته للتكتل المعارض الذي صار شريكا له في الحكم، بعد تنحي صالح عن منصب الرئيس مقابل منحه الحصانة بموجب اتفاقية نقل السلطة المعروفة باسم المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة.       وإثر ذلك شرعت القوى السياسية اليمنية على اختلاف مواقفها ومن مختلف مواقعها من الثورة والتغيير السياسي، في المشاركة الفاعلة في رسم معالم المستقبل، اعتمادا على ما توافر من توافق داخلي ودعم خارجي، ورعاية إقليمية ودولية،    

وبعد التوقيع على المبادرة الخليجية في تشرين ثاني (نوفمبر) 2011 كانت الحكومة أول ملمح من ملامح العهد الجديد مع ما صاحبها من ملامح التغيير السلمي، بدءا بانتخاب الرئيس بشكل توافقي تمهيدا لتوليه إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية.

ثم بدأت عمليات التغيير الشاقة والمعقدة والطويلة، وصولا لعقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل في مارس/آذار الماضي، بمشاركة كافة القوى والمكونات السياسية والثورية المستفيدة من عملية التغيير، باستثناء بعض فصائل الحراك الجنوبي.

وبعد حوالي عشرة أشهر من العمل المتواصل أنهى المؤتمر أعماله معلنا اختتام مرحلة الحوارالخاص بصياغة الرؤى  التصورات المطلوبة لبناء الدولة وصناعة المستقبل، وهوما يعني البدء بالمرحلة الأهم والمتمثلة بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وفي طليعتها ترجمة ما يتعلق بالشكل الجديد للدولة على أرض الواقع، في سياق وضع الحلول والمعالجات للمشاكل والقضايا ذات البعد الوطني التي ظلت على مدى سنوات تحتل الحيز الأكبر في مساحة الوعي الوطني السياسي والاجتماعي والثقافي.

والحقيقة أن الوثيقة الوطنية التي خرج بها المتحاورون حققت – إلى حد كبير- الحد الأدنى من توافق المشاركين في الحوار على طموحات ومطالب اليمنيين المستندة على إيجاد الدولة الضامنة للحقوق والراعية للحريات، بمؤسساتها القائمة على الكفاءة والنزاهة وقيم المساواة والعدالة وحقوق الإنسان.

ووفقا لهذه الوثيقة تبدوالمخارج العملية واضحة المعالم بينة المسالك في السير نحوالمستقبل الذي كانت غالبية القوى شريكة في صناعته، ومشاركة في رسم ملامحه، كما أن ما يظهره البعض من اعتراض على بعض المخرجات الخاصة بشكل الدولة لا تعدوعن كونها ملاحظات، ولم يعد من مجال للانقلاب على ما خرج به المؤتمر، خصوصا وقد حقق قدرا مرضيا من التوافق، بشهادة جـُل مكونات الحوار- إن لم نقل كلها.

وحسب ما يراه معدوالوثيقة فإن المستقبل القريب يعتمد استثمار التوافق في الحوار والبناء عليه في مرحلة تنفيذ مخرجات هذه الوثيقة، وهوما يتطلب بالتالي بناء الكتلة الوطنية الواسعة من أولئك الذين يؤمنون بعملية التغيير وبناء اليمن الجديد.

بالإضافةلاستثمار الدعم الدولي لمخرجات الحوار الوطني في اليمنبوصفها “قصة نجاح لمبدأ الحوار بين المختلفين”، وإدراكهم العميق لمخاطر الفشل، التي لن تقتصر على إشاعة الفوضى والخراب في اليمن وحده.

ولم يغب عن خلد المتحاورين وراسمي مستقبل اليمن وضع الضمانات الاساسية الخاصة ببناء الدولة الجديدة، بعد استعادة هيبتها وسيادتها على كامل الأرض اليمنية، وبما يكبح جماح العصابات المسلحة التي بات خطرها يهدد كل شبر في البلد، وبما يجعل الدولة ذاتها قادرة على نزع الأسلحة من أيادي تلك العصابات والميليشيات التي بدا أنها استفادت الفترة الماضية من فشل النظام السابق في تحقيق التنمية الشاملة وضعف الإدارة الحالية عن تحمل تبعات التركة الثقيلة من الفشل المزمن، وسعت لتوسيع رقعتها ومد نفوذها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، كل ذلك كفيل بجعل الدولة – في حالة استعادة هيبتها – أقوى الضمانات على تنفيذ صحيح للمخرجات وتحويلها إلى واقع ملموس، وليس مجرد توصيات واقتراحات.

وتنص وثيقة الحوار الوطني على أن يبدأ المسار من نهاية اختتام الحوار الوطني إلى الاستفتاء على الدستور الجديد (ومدتها سنة) ثم ينتهي عند الولوج إلى المحطة الثانية محطة تأسيس الدولة وإجراء الانتخابات.

وبعد كتابة الدستور الجديد الذي يحدد المدة الزمنية لفترة قيام سلطات الدولة الاقليمية والاتحادية وإجراء الانتخابات العامة.

وتقر الوثيقة “الشراكة الوطنية الواسعة” باعتبارها المبدأ الحاكم للمرحلة القادمة، من أجل إحداث تغيير حقيقي ينعكس بوضوح وواقعية على العملية السياسية وحياة المواطنين، وأهمية استمرار دعم المجتمع الدولي للعملية السياسية في اليمن وتلبية الاحتياجات التنموية.   

ومن المؤكد أن هذه المهام الاستثنائية بالنظر للظروف التي تعيشها البلاد لن تكون سهلة التنفيذ وسيكون أمامها الكثير من المعوقات  والعراقيل التي ترعاها وتشجعها قوى عديدة متفقة أحيانا فيما بينها ومختلفة أحيانا أخرى، وغالب اتفاقها يتجلى في كونها مستفيدة من بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وكونها بالمقابل متضررة من إجراء التغيير الجاد والحقيقي، لأنها ترى أن الذهاب نحوالمستقبل يعني وأد مشاريعها المشدودة لصراعات الماضي التي عانى منها اليمنيون منذ ثورتهم الأولى قبل ستين عاما.

الصراع السياسي يؤخر بناء الدولة في اليمن

 

الصراع

يدرك المتابع للأحداث في اليمن أن الصراع السياسي وقف حائلا بين اليمنيين وبناء دولتهم الوطنية رغم مرور أكثر من خمسين عاما على إنجازهم ثورتين إحداهما في شمال البلاد أسقطت حكم الإمامة في سبتمبر/أيلول 1962، وأخرى في جنوبها أفضت إلى الاستقلال الوطني (أكتوبر/تشرين أول 1963- نوفمبر/تشرين ثاني 1967).

وشهد شطرا اليمن الشمالي والجنوبي جولات من الصراع السياسي خلفت آلاف القتلى والجرحى والمشردين والمفقودين، وتركت آثارها المأساوية ظاهرة على مستوى الحكم والسياسية كما هي على مستوى الحياة المعيشية، فضلا عن تردي الخدمات الأساسية وضعف الأمن وتدني مستويات الوعي والثقافة والتربية والتعليم وغيرها.

بالنسبة لشمال اليمن فإن الفترة الزمنية التي أعقبت قيام الثورة شهدت أكثر الحروب عنفا ودموية ودمارا، ابتداء بحرب ضروس بين النظام الجمهوري الذي كان في طور التشكل من جهة،  والقوى التابعة للنظام الملكي المدعومة من السعودية من جهة ثانية، واستمرت الحرب زهاء ثمان سنين ولم تتوقف إلا بعد توقيع اتفاق بين الطرفين، رأت فيه بعض قوى الثورة انقلابا على النظام الجمهوري ومؤامرة عليه، ما أسفر عن انقسام القوى المحسوبة على الثورة، لتبدأ جولة أخرى من الصراع السياسي، لكنها هذه المرة داخل الصف الجمهوري الذي وجد نفسه مقسوما بين قوى “محافظة” وأخرى “يسارية وقومية تقدمية”، وكل طرف يحمل الثاني تبعات الإخفاق الذي ظل يلازم أداء حكومات الثورة في الاقتصاد والمعيشة كما في الأمن والسياسة.

وإلى جانب عوامل الفكر والإيديولوجيا التي أججت الصراع بين قطبي الجمهورية في شمال اليمن، حضرت عوامل وأسباب لها صلة بالجغرافيا والمذهبية والتبعية للقوى الخارجية عربية كانت أوأجنبية،

وتناسلت صراعات عديدة من أتون الصراع الواحد، كما توالد من رحم الحرب أكثر من حرب، وجاءت الانقلابات العسكرية باعتبارها وصفة العصر السحرية لتخليص البلاد من مشاكلها، لتشهد اليمن في شطريها ثمانية انقلابات كانت تطيح برئيس وتأتي بآخر لا يلبث إلا أن يجد نفسه يغادر السلطة – والحياة أحيانا- بالطريقة التي جاء بها.

وباستثناء الإطاحة برئيسين في الشمال (السلال 1967 والإرياني 1974 وثالث في الجنوب (عبدالفتاح إسماعيل 1980) فإن بقية الانقلابات اتسمت بالعنف والدموية ورافقتها أعمال قتل وتصفيات ألحقت أضرارا بشرية ومادية هائلة.

وفيما كان حكام اليمن الشمالي يشعرون بالغبطة لأنهم كسبوا المعركة على حساب خصومهم من اليساريين والماركسيين كان نظراؤهم في الشطر الآخر من الوطن، يتباهون بانتصارهم على قوى “اليمين الرجعي”، في أكثر من خمس دورات دامية جعلت الطبقة الحاكمة مطمئنة لاستفرادها بالسلطة بدون خصوم، ومع أن الفترة الزمنية الممتدة بين الثورة والوحدة (1962-1990)، لم يشهد فيها شطرا اليمن استقرارا مرجوا إلا أنها لم تسلم من الحروب الشطرية أيضا، إذ اشتعلت حرب الحدود بين الطرفين قبل أن توقفها جهود عربية أسفر عنها توقيع الطرفين على “اتفاق القاهرة” في أكتوبر/ تشرين 1972 ثم “بيان طرابلس″ في نوفمبر/ تشرين ثاني 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في العام 1979 التي أوقفت هي الأخرى برعاية عربية أفضت إلى التوقيع على “اتفاقية الكويت” في مارس/آذار 1979 بين رئيسي الشطرين.

وحين طوى اليمنيون صفحة التشطير والتجزئة مع إعلان الوحدة بين شطري الوطن في مايو/أيار 1990، عدّوا ذلك إيذانا بالخلاص من ويلات الحروب والصراعات، بيد أنه لم يكد يمر عليهم سوى بضعة أشهر حتى عاود شبح الصراع ظهوره من جديد، ووجدوا أنفسهم في أتون دورة أخرى من المواجهات وجولة أخرى من الحروب أرهقت كاهل البلد المثقل بالمواجع وأضافت حلقة أخرى لسلسلة فجائعه، وصفحة جديدة في سجل مآسيه وانتكاساته، وعلى هامش الصراعات الكبرى التي أنشبت أظافرها في الجسد اليمني حتى أثخنته، كانت تنشب بين الحين والآخر معركة هنا أوهناك، تارة تحت لافتة الولاء السياسي وتارة أخرى بدافع  الانتماء القبلي والعشائري،  وظل الصراع يأخذ أشكالا عديدة لكن النتيجة كانت واحدة: مزيد من الضحايا والخسائر البشرية والمادية، وضياع الموارد وإهدار الطاقات وتبديد الثروات، مع تخلف في الإدارة واستلاب للإرادة أضاعا  فرصة بناء “الدولة الوطنية”، لينتج عن ذلك  تدهور في الاقتصاد والمعيشة رفع نسبة الفقراء ووسع دائرة البطالة، وصاحب ذلك كله تراجع في ممارسة الديمقراطية، ومصادرة للحقوق، وتضييق على الحريات، ناهيك عن وصول القوى السياسية في الحكم والمعارضة لطريق مسدود أصبح معه الاتفاق غير ممكن والحوار شبه مستحيل، الأمر الذي جعل غالبية الشعب والشباب في المقدمة يخرجون إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط النظام، مستلهمين من ثورتي تونس ومصر دروسا عملية لا تقبل التأجيل أوالتسويف، فكانت ثورة فبراير 2011.

وبدورها أفضت الثورة اليمنية إلى تغيير جزئي في نظام الحكم، وفقا لاتفاقية “نقل السلطة” التي وقعتها الأطراف السياسية في نوفمبر/ تشرين ثاني 2011 وقضت بتنحي الرئيس وتنصيب نائبه وتشكيل حكومة مناصفة بين السلطة والمعارضة، ودخلت البلاد في مرحلة انتقالية كشفت عن التناقض بين قوى الثورة التي وجدت نفسها متفقة على “إسقاط النظام” ومختلفة على ما عداه من المطالب،

ومع أن قوى الثورة اليمنية ومكوناتها السياسية وروافدها الشعبية آثرت العمل مجتمعة على تحقيق أهداف الثورة وفي مقدمتها إسقاط النظام وبناء الدولة الحديثة، وتأجيل الخوض في تناقضاتها الفكرية والسياسية والمذهبية والجهوية، غير أن الظروف والملابسات الداخلية والخارجية قادت اليمنيين جميعا -بعد عشرة أشهر من انطلاق ثورتهم- إلى القبول بتلك الاتفاقية التي جاءت كتسوية سياسية أبقت على نصف النظام الذي ثاروا عليه شريكا رئيسا في الحكم، فضلا عن منح رئيسه وكبار مساعديه حصانة من المساءلة القانونية عن ممارساتهم خلال ثلث قرن من الزمن، هي فترة حكم الرئيس/ علي صالح المشمولة بالحصانة حسب اتفاقية نقل السلطة المعروفة بـ”المبادرة الخليجية”، نسبة لرعاة الاتفاقية في مجلس تعاون دول الخليج العربي.

وكان التوقيع على المبادرة أول منعطف أسفر عنه انقسام قوى الثورة بين مؤيد للاتفاقية ومعارض لها بسبب ما تضمنته من بنود رأى المعارضون أنها تنتقص من الثورة، بيد أنه لم يكن انقساما حادا بفعل انحياز الغالبية العظمى نحوالخيار الأول  والقبول به كأمر واقع، وخيار يجنب البلاد مخاطر الحروب والصراعات، خاصة وأنه تزامن مع توسع المواجهات المسلحة في ليبيا وارتفاع أعداد ضحايا الصدامات المماثلة في سوريا.

وما إن بدأ شركاء الحياة السياسية تنفيذ اتفاقية نقل السلطة حتى بدأ الفرز في صفوف الثورة يأخذ أبعادا هي للمنطلقات الفكرية والاعتبارات الجهوية أقرب منها للمواقف السياسية وتحالفات الثورة، وظل هذا الفرز يتنامى ويتخذ أشكالا عديدة مع ما بات يرافقه من استقطاب يهدد أمن البلد واستقراره.

ولم يعد موضوع الصراع بين القوى والتيارات اليمنية الفكرية والسياسية مجرد مؤشرات يمكن ملاحظتها والوقوف عليها في إشارات عابرة أوتلميحات غير ظاهرة، لكنه غدا حقيقة يعيشها اليمنيون في أكثر من منطقة، من خلال صراعات ومواجهات مسلحة ترتدي عباءة الصراع المذهبي في شمال البلاد، وتتخذ من التمايزات الجهوية والمناطقية مبررا في جنوبها، لكنها في كلا المشهدين لا تخفي العامل السياسي مهما أمعن في التخفي.

والأنكى أن هذا الصراع -لدى بعض أطرافه- يتغيا العودة إلى الماضي بصور متفاوتة وأشكال مختلفة، إما بالعودة لما قبل الثورة الأولى ضد الحكم الملكي الإمامي مطلع ستينيات القرن الماضي، كما هوالحال لدى الجماعات المسلحة شمال البلاد، أوبالعودة إلى ما قبل الوحدة اليمنية التي جمعت شطري الوطن عام 1990، كما تطالب جماعات انفصالية في الجنوب، ناهيك عن ما تسعى إليه قوى ومكونات أخرى من إعاقة التغيير وعرقلة الانتقال السلمي للسلطة بشكل كامل، والمحصلة في كل ذلك الإبقاء على الدولة ضعيفة وعاجزة وفاشلة، وتلك معضلة اليمنيين الكبرى، التي تسعى للحؤول دون صناعة المستقبل المنشود الذي كان – ولا يزال حلما مؤجلا منذ ما يزيد عن نصف قرن، والمؤكد اليوم أن التحديات التي تواجه التحول الديمقراطي في اليمن لم تعد هما يمنيا خالصا، سيما بعد ما أصدر مجلس الأمن الدولي أواخر فبراير/ شباط الماضي قراره رقم (2140) الذي أفرد فيه بنودا عدة تلوح بالقيام بإجراءات عقابية تطال معرقلي العملية السياسية وتندرج تحت الفصل السابع، الأمر الذي سيجعل المعرقلين- أشخاصا أوهيئات- في مواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي، بعد ما بدا واضحا أن قدرة اليمنيين على تحمل تلك التحديات، فضلا عن مواجهتها والتغلب عليها لم تعد موضع ثقة، ويكشف ارتياح أغلب اليمنيين للتلويح الأممي بمعاقبة المعرقلين أنهم يشاطرون صناع القرار الدولي الاستنتاج نفسه إن لم يكونوا سبقوهم إليه بسنوات.

 

 

رفع الدعم عن المشتقات النفطية في اليمن.. عبث حكومي أم شر لابد منه؟

 

 

yamana-2012

 

بعد إعلان الوحدة اليمنية في مايو 1990م بدأ يطرح موضوع “الإصلاح الشامل”، و قصد به الإصلاح المالي و الإداري و “السياسي”، بيد أن نشوب أزمة مفاجئة بين الحزبين الحاكمين حينها (المؤتمر و الاشتراكي) حال دون المضي في تطبيق البرنامج.

لكن الموضوع عاد ليطرح مرة أخرى بعد حرب 1994م، و أقرت الحكومة المؤلفة من حزبي المؤتمر و الإصلاح البدء في تنفيذ برنامج الإصلاح المالي و الإداري، و كان المفترض تنفيذ ربط الإصلاح المالي الذي يقصد به رفع جزء من الدعم عن المشتقات النفطية، بإصلاح إداري يتضمن تعزيز إجراءات الرقابة الحكومية و محاربة الفساد المستشري، كما اشترط ممثلو حزب الإصلاح في الحكومة وقتها.

لكن ما تم تنفيذه في العام 1995م اقتصر على رفع سعر دبة  البترول (20 لتر) من 120 إلى 250 ريال، أما الإصلاح الإداري الذي كان يومها مطلبا ملحا فقد ذهب أدراج الرياح.

و تراجعت الأوضاع الاقتصادية بينما كان المتوقع حسب وعود الحكومة أن تتحسن بعد رفع جزء من دعم المشتقات النفطية بينما توسعت رقعة الفساد و شراء الذمم، فالنظام الحاكم بعد ما تخلص من شريكه في التوقيع على الوحدة أصبح تركيزه في سنوات ما بعد الحرب على التخلص من شريكه الجديد.

و لأن الفساد استمر على حاله فقد ساءت أحوال المعيشة و الوضع بشكل عام ازداد هو الآخر سوءا و عوائد رفع الدعم لم تعد كافية لرفد خزينة الدولة الواقعة تحت سطوة عصابة كانت تسعى لتوسيع دائرة نفوذها و محاصرة خصومها، و هنا أعيد الطرح مجددا عن ضرورة الإصلاحات المالية و رفع جزء آخر من الدعم عن المشتقات النفطية، و طرح المؤتمر على الإصلاح هذه الفكرة لكن الأخير رفض مستندا على تجربة الخطوة الأولى حين ركزت الحكومة على الإصلاح المالي و تركت الإصلاح الإداري.

أعلنت الحكومة في العام 1996م، جرعة ثانية من الإصلاحات المنضوية تحت برنامج الإصلاح الشامل، لكنه غدا في نظر مختصين و خبراء برنامج الإفقار الشامل، لاعتماده فقط على جيوب الفقراء لتعزيز ميزانيته فيما أيادي اللصوص مشرعة لنهب الممتلكات العامة و الخاصة و برضا و مباركة رأس الحكم الذي كان يتباهى بتوسع قاعدته الشعبية على حساب شريكه القديم و في انتظار توسع جديد على حساب شريكه الجديد.

في الجرعة الثانية التي قوبلت باستياء عارم في صفوف المواطنين و لدى الخبراء و المعنيين على حد سواء، ارتفع سعر الدبة البترول من 250 إلى 400 ريال.

و في العام الذي يليه 1997م أجريت الانتخابات النيابية العامة، و حينها قال الرئيس السابق للنظام علي صالح إن عهد الجرع ولى و إلى الأبد، و من يقول أن هناك جرعة فهو مزايد و كذاب.

و مع ذلك فلم يمض العام 1998م إلا على صرخة أوجاع جديدة نتجت عن الجرعة الثالثة التي ضربت عرض الحائط بكل تعهدات صالح و نظامه، و تبين أنه لم يكن هناك كذب و مزايدة في التكهن بإقرار جرعة ثالثة بقدر ما تبين أنه الكذاب و لا غيره، خاص و قد صار سعر الدبة 700 ريال.

غادر الإرياني الحكومة بعد تحميله مسئولية الجرعة و جيء بعبدالقادر باجمال لكن الفساد ظل هو لحاكم المهيمن على كل المؤسسات و المرافق و المواقع الحكومية بينما السخط الشعبي يتزايد يوما بعد آخر و رقعة الفوضى تتمدد يمينا و شمالا على وقع الإخفاق المتوالي ليس في الاقتصاد فقط و لكن في كافة النواحي و المجالات.

كان اعتماد الحكومات المتعاقبة على عوائد بيع النفط بنسبة تزيد عن 70 بالمائة محل انتقاد الخبراء و المنظمات المعنية داخليا و خارجيا، و مع ذلك ظلت اليمن مكتفية بما يعود عليها من بيع النفط خاصة بعد إقدام النظام على بيع الغاز اليمني للاحتكار الفرنسي- توتال و الشركة الكورية الجنوبية، و بسعر زهيد جدا ظل يشكل عبئا على الاقتصاد الوطني لم يلفت له المعنيون بالأمر إلا بعد اندلاع الثورة، و لا يزال الأمر عالقا في بعض جوانبه.

و مع أن صالح و حكوماته تعهدوا مرات كثيرة أن لا عودة للجرع فقد جاءت الذكرى ال28 لتولي صالح سدة الحكم و معها إعلان جرعة جديدة دفعت لأعمال شغب و احتجاجات واسعة في غالبية المدن و المحافظات منتصف يوليو 2005م حينما رفع سعر البترول من 700 إلى 1300، و تم تعديله فيما بعد إلى 1200 ريال.

الوضع بعد الثورة

كان من الطبيعي في بلد يعاني أوضاعا اقتصادية صعبة و سياسية متأزمة و أمنية متدهورة أن يتضاعف الخراب بعد اندلاع الثورة و سقوط أجزاء واسعة من مقومات النظام – و لو شكليا- في كثير من المناطق شمالا و جنوبا و شرقا و غربا على السواء، إما في يد عصابات مسلحة كالحوثيين و القاعدة أو مناطق تخضع للصراعات ذات البعد الاجتماعي و السياسي المحدود أحيانا و غير المحدود أحيانا أخرى كما في كثير من أجزاء البلاد.

و تبع ذلك هجمات متوالية على المصالح الاقتصادية الكبرى بدءا بالنفط و الغاز و ليس انتهاء بالكهرباء و المياه و الطرقات، الأمر الذي ضاعف من تبعات القائمين على الحكم في صيغته الجديدة المستندة إلى المبادرة الخليجية و اتفاق نقل السلطة.

و وجد اليمنيون أنفسهم أمام أزمات متلاحقة كل واحدة منها تمسك بتلابيب الأخرى، و ما تنقضي أزمة إلا على أصوات أخرى قادمة، بعضها كان يفتعل لتحقيق أهداف و مكاسب سياسية جديدة أو للحفاظ على مكاسب قائمة، و بعضها كان لها جذور و خلفية كامنة و تحتاج معالجات جادة و طويلة.

و مع تزايد الأزمات و تلاحقها في السنوات التي أعقبت اندلاع الثورة الشعبية مطلع العام 2011م، إلا أن رفع الدعم عن المشتقات النفطية بصيغته الأخيرة التي أقرتها الحكومة أواخر الشهر الماضي يعد مفصلا حاسما في مسار الوضع الاقتصادي في مرحلة ما بعد الثورة، إما لأنه جاء في توقيته متزامن مع تصاعد أعمال عنف و مواجهات في أكثر من منطقة و تردي خدمات الكهرباء و المياه و الاتصالات، أو لأنه تضمن ارتفاعا في القيمة الجديدة لم تكن متوقعة (أربعة آلاف ريال).

و بعيدا عن السخط المتوقع إزاء كل إجراء مماثل يطرح التساؤل عن جدوى هذا القرار و ضرورته، إن كان ثمة جدوى و ضرورة، و هل كان يمكن تلافي الوصول إلى مثل هذا القرار و العمل بصيغ و بدائل مناسبة؟

يشير الخبراء بإنصاف إلى أن الخيارات أمام الحكومة في الأوضاع و الظروف الراهنة غدت شبه محدودة، خاصة مع تزايد أعمال التهريب التي تستغل فارق السعر بين المحلي و العالمي و عدم القدرة على ضبط المنافذ و المعابر التي تستخدم لمثل هذه الأعمال في ظل ضعف الأجهزة الأمنية و الرقابية، كما و يحضر عامل مهم في الموضوع و يتمثل في تراجع إنتاج النفط بعد ارتفاع وتيرة الاعتداءات على أنابيب و حقول النفط في أكثر من منطقة، و هو ما أدى بالتالي و كنتيجة متوقعة بالضرورة إلى تراجع حصة الحكومة من عوائد بيعه الزهيدة أصلا، و بالمقارنة بين أكثر من ثلاثمائة ألف برميل يوميا كانت تنتج في الفترة السابقة لاندلاع الثورة و قرابة مائة ألف هي إجمالي ما بات ينتج في الوقت الراهن يتجلى الفرق واضحا و كبيرا إلى الحد الذي بات يهدد بكارثة اقتصادية. 

و كانت الميزانية السنوية للعام الحالي 2014 توقعت رفعا محدودا للدعم عن المشتقات النفطية كما يتضح من خلال أرقام و بيانات الميزانية التي أقرها البرلمان، و مع ذلك حاولت بعض القوى السياسية و الميليشيات المسلحة أن تركب موجة الغضب العفوي و الترويج لنفسها كما لو كان لديها رؤية اقتصادية واقعية متكاملة، لكنها انتكست بفعل الوعي الوطني الذي وجد طريقه لشريحة واسعة من المواطنين، حيث أدركوا أن من يسهل عليه قتل الأبرياء و إحراق المنازل و نهب الممتلكات لن يكون صادقا في زعمه الحرص على سعر دبة بترول أو ديزل مهما كان صوته مرتفعا و صراخه لا ينقطع.