مؤرخ يمني يستحضر ملامح النهضة الحضارية لبلاده في العهد العثماني

 

 

 

علي جار الله الذيب، يتحدث عن شواهد تروي إنجازات الخلافة العثمانية في اليمن رغم مرور 100 عام: القوات العثمانية أقامت منشآت عسكرية ضخمة، تشهد آثارها الباقية ﺑﻌﻈﻤﺔ ﻭﻗﻮﺓ دولة الخلافة النهضة شملت المجال التشريعي من خلال إنشاء مجالس بلدية منتخبة العثمانيون حققوا نهضة صناعية تمثلت بصناعة ﺍﻟﺤﺪﻳﺪ…

 

عدن/ فؤاد مسعد/ الأناضول

 

قال المؤرخ والباحث اليمني علي جار الله الذيب، إن اليمن شهد خلال أعوام الوجود العثماني ﻧﻬﻀﺔ حضارية ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻣﺠﺎﻻﺕ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، لا تزال شواهدها موجودة إلى اليوم بعد مرور مائة عام على مغادرة الأتراك العثمانيين البلاد عام 1918.

وفي تصريحات خاصة للأناضول، يقول الذيب إن أهم ما حققه الوجود العثماني في اليمن “دحر العدوان الصليبي وحماية المقدسات الإسلامية، والتصدي للطامعين في احتلال اليمن حين كان يهددها الغزو ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻲ في القرن السادس عشر الميلادي”.

ويوضح أن التهديدات التي حاقت باليمن “جعلت أهله ﻳﺴﺘﻨﺠﺪﻭﻥ ﺑﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ الإﺳﻼﻣﻴﺔ التي استجابت للنداء ﻭﺃﺭﺳﻠﺖ قواتها ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻴﻤﻦ، باﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮﺭ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﺣﺰﺍﻣﺎً ﺃﻣﻨﻴﺎً ﻟﻠﺤﺮﻣﻴﻦ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﻴﻦ في مكة المكرمة والمدينة المنورة”.

وللذيب، الباحث المتخصص في التاريخ الإسلامي، بالمركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل (غير حكومي تأسس عام 2006، ومقره صنعاء)، عدد من الدراسات التاريخية عن اليمن في العهد العثماني، وله كتاب تحت الطبع بعنوان “النهضة اليمنية في عهد الخلافة العثمانية”.

ويرى الباحث، أن الوجود العثماني في بلاده “تولّى ﺤﻤﺎﻳﺔ ﺛﻐﻮﺭ ﺍﻟﻴﻤﻦ ﻭحصّن مدنه ﻭﺠﺰﺭه” مؤكدًا أن “القوات العثمانية أقامت منشآت عسكرية ضخمة، تشهد آثارها الباقية إلى اليوم ﺑﻌﻈﻤﺔ ﻭﻗﻮﺓ دولة الخلافة”.

ودلل على ذلك بـ “ﺍﻟﺘﺤﺼﻴﻨﺎﺕ والأسوار ﻭﺍﻟﻘﻼﻉ ﺍﻟﻀﺨﻤﺔ ﻓﻲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻋﺪن (جنوب)، ﻭمضيق ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻤﻨﺪﺏ (الممر الاستراتيجي جنوب البحر الأحمر)، ﻭمدن ﺍﻟﻤﺨﺎ ﻭﺯﺑﻴﺪ واﻟﺤﺪﻳﺪﺓ (مطلة على البحر الأحمر غربي البلاد)، ﻭجزيرة ﻛﻤﺮﺍﻥ في البحر الأحمر”.

ويقول الذيب إنه “ليس هناك مدينة أو منطقة مهمة باليمن ﺇﻻ وتحتوي على ﻣﻨﺸﺄﺓ تتبع ﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ” مستدلًا على ذلك بالمنشأة الدفاعية التي شيدها العثمانيون في ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺻﻨﻌﺎﺀ أو ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺮﻑ ﺑﺎﻟﻌﺮﺿﻲ، ويسمى ﺣﺎﻟﻴﺎً “ﻣﺠﻤﻊ ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ” الواقع ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺍﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﻟﻤﺪﻳﻨﺔ صنعاء، وﻛﺎﻥ وفقا للذيب، ﻣﻘﺮﺍً ﻟﻠﻘﻴﺎﺩﺓ على مستوى ﺍﻟﺠﺰﻳﺮﺓ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ أيضا ﻣﻘﺮﺍً ﻟﻠﺠﻴﺶ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ﺍﻟﺴﺎﺑﻊ.

 

** ملامح النهضة في العهد العثماني

وعن شواهد النهضة اليمنية إبان العهد العثماني يقول الذيب، إن “النهضة شملت المجال التشريعي من خلال إنشاء مجالس بلدية منتخبة، في المستويات الثلاثة، مجلس المدينة ثم مجلس المحافظة، ثم المجلس العمومي على مستوى الولاية – اليمن”.

ويضيف أن “الأتراك العثمانيين أحدثوا نهضة صناعية في جميع المجالات”، مستدركًا بالقول “لكن ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻨﻬﻀﺔ ﺍﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻌﻤﻼﻗﺔ ﺗﻮﻗﻔﺖ ﻛﺎﻣﻠﺔ عقب خروج الأتراك من اليمن، وسيطرة الإمام يحيى حميد الدين على الحكم عام 1918”.

وبحسب الباحث الذيب، أنشأ العثمانيون في اليمن ﻣﺼﻨﻊ ﺍﻟﺤﺪﻳﺪ وﺍﻟﺼﻠﺐ، ﻟﺼﻬﺮ ﺍﻟﺤﺪﻳﺪ ﻭﺍﻟﻨﺤﺎﺱ ﻭﺻﻨﺎﻋﺔ ﺍﻟﻤﻌﺪﺍﺕ ﺍﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﻭﺍﻟﺨﻔﻴﻔﺔ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ، كصناعة ﺍﻟﻌﺮﺑﺎﺕ ﻭﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﻨﻘﻞ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ، وﺍﻟﻤﺼﻨﻊ ﺍﻟﺤﺮﺑﻲ الذي خصص لصناعة ﺍﻷﺳﻠﺤﺔ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﺍﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﻭﺍﻟﺨﻔﻴﻔﺔ وﺍﻟﺬﺧﻴﺮﺓ، وكذلك عدد من مصانع ﺍﻟﻐﺰﻝ ﻭﺍﻟﻨﺴﻴﺞ ومصانع الرخام والزجاج ومصانع طحن الحبوب، وغيرها من المصانع والصناعات متعددة الأغراض.

أما عن النهضة في مجال النقل واﻟﻤﻮﺍﺻﻼﺕ، فيتحدث المؤرخ اليمني عن ﺍﻟﺴﻜﻚ ﺍﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ﻭﺇﺩﺧﺎﻝ ﺍﻟﻘﻄﺎﺭﺍﺕ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﻘﺮﻥ العشرين، مؤكدًا أن ذلك يعد “من أهم المشاريع ﺍﻻﺳﺘﺮﺍﺗﻴﺠﻴﺔ التي حققتها ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ ﻓﻲ ﻋﻬﺪ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺤﻤﻴﺪ ﺍﻟﺜﺎني”.

ﻭوفقا للمؤرخ اليمني، فقد ﺳﺎﺭ أوﻝ ﻗﻄﺎﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻴﻤﻦ ﺳﻨﺔ 1911 ﻓﻲ ﺣﻔﻞ ﺍﻓﺘﺘﺎﺡ ﺣﻀﺮه الوالي ﻭﻛﺒﺎﺭ ﺭﺟﺎﻝ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ حينها، ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻩ ﺃﻭﻝ ﺣﺪﺙ ﺗﺎﺭﻳﺨﻲ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﻴﻤﻦ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻧﻴﺔ.

ويوضح أن السكك الحديدية في اليمن امتدت من خط الحديدة صنعاء ﺇﻟﻰ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺤﺠﻴﻠﺔ ﺟﻨﻮبي ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻨﺎﺧﻪ ﺑﺎﺗﺠﺎﻩ ﺑﻼﺩ آﻧﺲ (وسط البلاد)، ﻭﺗﻮﻗﻒ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ ﺑﺴﺒﺐ اندلاع ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻋﺎﻡ 1914، التي أسفرت عن ﺧﺮﻭﺝ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻴﻤﻦ، ليتوقف المشروع بالكامل.

كما أنشأت الحكومة العثمانية، بحسب الذيب، ﺍﻟﻄﺮﻕ ﻭﺍﻟﺠﺴﻮﺭ ﺍﻟﻌﻤﻼﻗﺔ ﻟﺮﺑﻂ ﺍلمدن والمحافظات اليمنية ﺍﻟﻨﺎﺋﻴﺔ ببعضها البعض، ﻭﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﺠﺴﺮ ﺍﻟﺤﺪﻳﺪي ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ على ﻃﺮﻳﻖ ﺣﺠﺔ ﻋﺒﺲ (شمال غرب)، والذي شُيّد عام 1903، ويبلغ طوله 42 ﻣﺘﺮا ﻭعرضه 4 ﺃﻣﺘﺎﺭ ﻭﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻟﻪ ﺃﻱ ﻋﻤﻮﺩ ﻳﺤﻤﻠﻪ ﻣﻦ ﺍﻷﺳﻔﻞ، ﻭﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﻣﻮﺟﻮﺩا ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻴﻮﻡ.

ويعرّج المؤرخ على النهضة التعليمية التي شهدها اليمن في العهد العثماني، مذكرا أن الدولة أنشأت ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ بجميع المستويات ﻭﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺎﺕ بمختلف تخصصاتها، إضافة إلى المدارس الفنية والصحية والصناعية، واﻟﻜﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ، وعددها ﺧﻤﺲ ﻛﻠﻴﺎت ﺗﺘﺒﻊ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﺑﺼﻨﻌﺎﺀ (ﺣﺎﻟﻴﺎً اﻟﻤﺘﺤﻒ ﺍﻟﺤﺮﺑﻲ)، وتحولت في عهد اﻹﻣﺎﻡ ﻳﺤﻴﻰ ﺇﻟﻰ ﺳﺠﻦ ﻋُﺮﻑ ﺑﺴﺠﻦ ‏(ﺍﻟﺼﻨﺎﺋﻊ‏).

كما شملت النهضة مجال الطب والشؤون الصحية والمجال المالي والمحاسبي، ومجالات الإعلام والقضاء والعمران، ويظهر هذا الجانب في تخطيط ﺍﻟﻤﺪﻥ ﻭﺇﻧﺸﺎﺀ ﺃﺣﻴﺎﺀ ﺣﺪﻳﺜﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﻥ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ‏(مثل حي ﺑﻴﺮ ﺍﻟﻌﺰﺏ ﻓﻲ ﺻﻨﻌﺎﺀ‏) ﻭﺑﻨﺎﺀ ﺍﻷﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﻀﺨﻤﺔ ﻟﻠﻤﺪﻥ ‏(كباب ﺍﻟﻴﻤﻦ ﻓﻲ ﺻﻨﻌﺎﺀ ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ‏).

كذلك، ووفق الذيب، امتدت الطفرة العمرانية إلى إنشاء الأسوار وﺍﻟﻘﺼﻮﺭ ﻭﺍﻟﺪﻭﺭ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﻴﺔ، وﺍﻟﺨﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻧﻴﺔ، وهي ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﺩﻭﺭ ﻟﻠﻀﻴﺎﻓﺔ ﺗﻘﺪﻡ ﺧﺪﻣﺎﺗﻬﺎ ﻟﻨﺰﻻﺋﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﻘﺔ ﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ، لكنها ﺗﺤﻮﻟﺖ ﻓﻲ ﻋﻬﺪ ﺍﻷﺋﻤﺔ (الإمام يحيى حكم اليمن من 1918 حتى 1948، وابنه الإمام أحمد حكم في الفترة 1948- 1962) ﺇﻟﻰ ﻣﺨﺎﺯﻥ خاصة.

ويتطرق الباحث والمؤرخ إلى ما شهده اليمن في عهد الدولة العثمانية، من إنشاء ﺍﻷﺳﻮﺍﻕ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﻳﺔ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ، وبناء ﺍﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻭﺍﻟﻘﺒﺎﺏ ﺍﻟﻀﺨﻤﺔ، ومنها جامع “ﻗﺒﺔ ﺍﻟﺒﻜﻴﺮﻳﺔ” ﺑﺼﻨﻌﺎﺀ الذي بناه الوزير حسن باشا عام 1005 هجري، تخليداً لشهيد القرآن “بكير باشا” الذي سقط من أعلى فرسه أثناء الاحتفال بتخرجه مع دفعة من زملائه في حفظ القرآن الكريم، وغيره من المساجد والقباب اﻟﺘﻲ ﺗﻢ ﺑﻨﺎؤﻫﺎ ﺑﺈﺗﻘﺎﻥ ﻛﺒﻴﺮ ﻭﺗﻤﻴﺰ ملحوظ.

 

**حصر وتوثيق المنشآت العثمانية

يشار إلى أن وفدا تركيا يضم خبراء آثار كان قد زار اليمن بداية العام 2008، ووثق 71 معلماً أثرياً عثمانيا في العاصمة صنعاء، من النمط المعماري الفريد في الطراز الإسلامي القديم الذي اعتمده العثمانيون في بناء الحصون والقلاع والمساجد والجسور.

وشملت تلك الزيارة، حسب بيانات صحفية، الاطلاع على المنشآت العثمانية التي شيدت في اليمن، بغرض حصرها وتوثيقها والمساهمة في عملية الترميم والحفاظ عليها من الاندثار باعتبارها من معالم اليمن السياحية، وتبرهن على عمق علاقات التاريخ والثقافة بين البلدين والشعبين الشقيقين.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *