روايات د. خولة حمدي.. السفير المقيم بين المبادئ والواقع

 

تجمع الروائية التونسية خولة حمدي في أعمالها بين أصالة القيم المثلى ومعاصرة الواقع الراهن، وتعمل على التقارب بينهما بلطف وانسياب، وتمتاز رواياتها بمسحتها الخاصة الموشاة بخيوط من الإبداع والحبكة واللغة المتماسكة والمضامين التي تتغيا السمو بالإنسان عبر منظومة متكاملة من القيم والمبادئ، وتسعى خلالها للبقاء بعيدا عن الانغماس في واقع مادي مستهتر من جهة، والتعلق بعالم مثالي غير واقعي من جهة ثانية.

ولو كان ثمت كلمة سر في أعمال خولة حمدي، لما كانت غير “القيم”، الحاضر الأبرز في مضامين رواياتها الخمس:

  • “في قلبي أنثى عبرية” التي صدرت في العام 2012، وتحضر فيها الاخلاق سفيرا حسنا بين الأديان السماوية، لردم هوة الخلافات التي زادت بفعل الحروب والصراعات الأخيرة.
  • “غربة الياسمين”، حين تطل المبادئ لانتشال الإنسان الذي أوشك أن يسقط في عالم المادة والانحراف.
  • “أحلام الشباب”، إذ تبقى القيم النبيلة قاربا للنجاة في الخضم المحيط بوسائله المتنوعة وأساليبه المختلفة.
  • “أين المفر”، بدأت كتابتها في سن المراهقة، وعمرها لم يتجاوز السابعة عشر، وراجعتها لاحقا لتصدر منقحة في العام 2007، وفيها تتجلى قيم الوفاء والتسامح والعفو في أبهى صورها حتى مع أولئك الذين باشروا أبشع صور الظلم، وفيها تظهر روعة المبادئ وهي تنتصر على الانتهازية والاستغلال والثراء من طرق غير مشروعة.
  • “أن تبقى”، آخر روايتها صدرت هذا العام 2016، وتظهر ثنائية الهوية والانتماء، منذ الأحرف الأولى للرواية حتى تجعلهما تصديرا للراوية فتقول: أن تكون عاريا من الهوية، حافيا من الانتماء، فذلك أقسى أشكال الفقر”، ومن ثم تهدي هذا العمل إلى من قالت أنهم “الفقراء الذين لما يدركوا مدى فقرهم”.

على أن العالم الذي تصنعه الأستاذة الجامعية في تقنية المعلومات خولة حمدي المولودة في تونس العاصمة عام 1984، في كل رواية من رواياتها، عالم واقعي تتمكن بأسلوبها الساحر ولغتها الآسرة من جعل القارئ يعيش وسط هذا العالم، يفكر فيما يشغل بال أفراده، ويتعاطف مع الضحايا ويسعى للنيل من الجاني، الأمر الذي يصيب القارئ بالحزن حينما ينتهي من قراءة الرواية بفعل العلاقة الحميمة التي نسجتها المؤلفة بين القارئ والنص الحافل بالأشخاص والأحداث، وهو شعور لازمني مع كل لحظة انتهي فيها من قراءة الرواية، كانت رواية “في قلبي أنثى عبرية” أول رواية أقرأها للدكتورة خولة، ومع أني كنت في البداية أشك أنني سأكمل قراءتها سريعا، خاصة وصفحاتها تتجاوز 770 صفحة، غير أنني وجدت نفسي مقيما في الخضم ذاته ومنهمكا في الحوادث نفسها، ومع مرور الأحداث فيها كنت أشعر بالقلق لأن الصفحات اخذت تتناقص، إلى أن انتهت ووجدت نفسي حزينا لأنني أفارق كل شخصيات الرواية وقد عشت معهم فترة من الزمن امتدت بامتداد صفحات الرواية، ثمة عامل آخر يبعث على الحزن عند انتهاء القراءة في روايات خولة حمدي، ويتمثل برأيي في كون نهاية الراوية عندها ملتزمة بخط الصراع الأبدي بين قيم الحق والخير والجمال  وقيم الباطل والشر والضلال، إذ يظل الصراع محتدما وعلى أشده، وفي حين يحقق الباطل النصر في كثير من جولات الصراع/ أحداث الرواية فإن النهاية تأتي في الغالب لصالح الخير سواء بانتصار قيمته في النفوس أو بانتصار رموزه وشخصياته في الأحداث عامة.

وتلك قيمة مهمة تضفي على روايات الدكتورة خولة هالة من السمو الإنساني في تمايز واضح عن صراعات عبثية تبدأ لتنتهي وتنتهي لتبدأ من جديد، حلقات مفرغة من صراع عدمي الغاية، الصراع الي يصبغ حياتنا وواقعنا كما يصبغ كثيرا من الروايات والأعمال والأفلام والمسلسلات، التي لم تعد تضيف للمتلقي شيئا جديدا، بيد أن من حق روايات حمدي علينا ونحن نتحدث عن نهاياتها الإشارة إلى أن مشاهد النهاية فيها تأتي في انسجام تام مع سير الأحداث، وفي تناغم من سيرورة حركتها، دون أن تخلو من الحبكة التي تجيد الكاتبة نسجها باحترافية تجعلها في مصاف الروائيين الأكثر حضورا في المشهد الأدبي خلال سنوات قليلة، كما أن تأثرها بالروائية العالمية الشهيرة أغاثا كريستي يبدو واضحا، سيما في روايتها الأولى “أين المفر”، الرواية التي قالت في مقدمتها إنها حين كتبتها كانت تحلم بـ”جيل جديد من الروايات الشبابية الملتزمة، في نفس تشويق مغامرات أغاثا كريستي وأخواتها”.

في مقدمة روايتها الأكثر شهرة “في قلبي أنثى عبرية”، تقول المؤلفة إن خطوط الرواية العريضة هي من الواقع، بعدما تعرفت على “ندى” التي صارت بطلة الرواية في منتدى إليكتروني، وعرفت جانبا من قصتها قررت أن تجعل منها رواية بعد ما أبكتها القصة الحقيقية، فيها سبرت المجتمع اليهودي, اليهود العرب خاصة، وفيها تسلط الضوء على المقاومة في جنوب لبنان، الحب والحرب، والإيمان، بمعنى أنها مستوحاة من الواقع وأن شخصيات الرواية موجودة في الواقع لكنها “لا تخلو من مسحة خيال مقصودة”.

وإذا نظرنا إلى شخصيات خولة حمدي سنلاحظ دون عناء حضور المرأة الواقعية، المتعلمة والمثقفة والملتزمة في جميع الأعمال، بل إن حضور المرأة يأتي متوازيا مع، إن لم نقل متجاوزا حضور الرجل، وتظل متمسكة بمبادئها ومواقفها رغم الظروف المعاكسة في كثير من الحالات، تتمسك ندى بالتعاليم اليهودية في “في قلبي أنثى عبرية” قبل أن تدخل الإسلام، ثم تصير أشد تمسكا بالمبادئ الجديدة، ومثلها “ليلى” في “أين المفر”، التي لم تنطل عليها كل محاولات الإغراء للتخلي عن مبادئها، و”مرام” في “أحلام الشباب”، وياسمين في “غربة الياسمين”، صرن أيقونات للالتزام بالمبادئ في زمن يصبح فيه المتمسك بمبادئه كالقابض على الجمر، وهذا يقدم المرأة بصورة تعاكس ما دأبت عليه أعمال أدبية وفنية لم تر في المرأة إلا كائنا مسلوب الإرادة والقرار، وهي عاجزة عن إثبات وجودها فضلا عن انتزاع حقوقها التي تواطأت عوامل عدة على النيل منها.

تحضر قضايا العصر في روايات خولة حمدي، قدر حضورها في الواقع المعيش، وتتخذ تراتبية مقاربة لتراتبية القضايا في الواقع المعاصر، وهي لا تكتفي بالإشارة إليها أو الحديث عنها، لكنها تجعل منها واقعا لا يمكن الفكاك من شباكه، من ذلك تحضر إشكالية الاغتراب بما لها من أسباب وعوامل وما ينتج عنها من آثار وتداعيات على الفرد وعلى المجتمع، وإن كان للغربة آثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية فإنها تصبح أشد وطأة حين تكون في بلد يختلف عن بلد المغترب في دينه ولغته وحضارته وأعرافه وتقاليده، فما بالك ان كان المغترب فتاة دفعتها ظروف وعوامل خاصة وعامة للاغتراب بعيدا عن كنف الأسرة والمجتمع، ويتكرر هذا المشهد، مشهد فتاة عربية مسلمة في بلد أوروبي، كما هو حال “ليلى” في “أين المفر”، و”رنيم” و “ياسمين” في “غربة الياسمين”.

كما لا تغفل قضايا أخرى لا تقل حضورا عن الغربة في الوقت الحاضر، كالأعمال الإرهاب والمظاهر العنصرية والبطالة والفقر والعادات الاجتماعية، وهي مع كل ذلك لا تكتفي بمجرد العرض والإشارة لكنها، وهي تحافظ على البناء الروائي تقدم معالجات مناسبة وفقا لرؤية واقعية تضيئها المثل العليا، دون أن تقع في فخ التقريرية المباشرة التي تحول العمل الأدبي إلى مواعظ جافة خالية من روح الأدب والإبداع.  

ما سبق مجرد خواطر عابرة لقارئ عادي، وهذه الأعمال تحتاج نظرة فاحصة من أولي التخصص، تسبر أغوار النصوص وتضيء مجاهلها بما تستحق من الدراسة والنقد، خاصة وقد تمكنت من لفت انتباه قطاع واسع من القراء في مختلف أرجاء وطننا العربي.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *