وسطية لندن وحروب الأطراف المتطرفة

 

فؤاد مسعد. اليمن

فوز العمالي المسلم ذي الأصول الباكستانية صديق خان بمنصب عمدة لندن يعيد إلى الواجهة حقائق طمرتها الأخبار اليومية والهموم المحلية في بلداننا النامية، رغم أنه لا ينمو فيها شيء كما تنمو أسباب الحرب وعوامل الصراع كما وتذبل مقومات التعايش وقيم المواطنة. رأت قطاعات واسعة في العالم العربي والإسلامي في هذا الأمر دليلا قاطعا على أن المسلمين موجودون بل ومشاركون في مواقع مهمة وفي دول أكثر أهمية، وأخذت كثير من القراءات والاستنتاجات تمضي في هذا الدرب، ولعلها تملك بعض الحق في ذلك، لكنها تخفي -عمدا أو خطأ- حقائق أحق بالاستنتاج والانتباه وبدونها ما كان لصديق أو غيره أن يفكر مجرد تفكير في خوض سباق من هذا النوع.
وإن من أهم الحقائق التي لا يجب اغفالها أو القفز عليها أن بلداننا العربية والإسلامية لا تزال طاردة لأبنائها، وعاجزة عن منحهم ما تيسر من حقوقهم، وفي المقابل لا يزال الغرب يفتح حدوده ومؤسساته ومراكزه واحزابه للملايين الذين ضاقت بهم أوطانهم ذرعا، على تفاوت في درجات التعامل الغربي واختلاف في مستويات استقبال القادمين من خارجه.
وتبعا لذلك رأينا مئات الأدلة والشواهد التي تدمغ واقعنا بالإدانة لأننا نفرط في الإنسان ونتجاهله، إن لم نقل أننا نحاربه ونسعى للخلاص منه باعتباره عدوا ازليا، وفي المقابل تتوارد البراهين على أن ثمة من يجيد التعاطي مع البشر حتى لو كانوا قادمين من مواطن التخلف والفساد والظلم، بل إن مؤسسات الدول المستضيفة قادرة على أن تجعل من لاجئ مشرد مسؤولا كبيرا، ومن فقير معدم اكاديميا ناجحا أو مخترعا بارعا، وأن تجعل من أولاد المطاردين لبنات صالحة وجاهزة للبناء والتعمير، حين نجحت بلدانهم الأصلية – بلداننا- في إعداد نظرائهم لتدمير كل شيء أمامهم وخلفهم وفوقهم وتحتهم.
وما ذكر أعلاه ينطبق على أغلب دول الغرب التي لا تخلو واحدة منها من نماذج وأمثلة كثيرة، بيد أن لندن ومن ورائها بريطانيا تشكل حالة أرقى بكثير نظرا لظروف وعوامل تخص المملكة المتحدة أكثر من غيرها، حتى لو كان هذا الغير هم جيرانها وشركاؤها وحلفاؤها.
في عدد من عواصم الدول الأوروبية تعالت صيحات اليمين المتطرف على وقع العمليات الإرهابية التي في الآونة الأخيرة، واستهدفت أبرياء في أكثر من مدينة وبلد، وحصدت بعض هذه التيارات المتطرفة في خصومتها مع العرب والمسلمين وعموم القادمين من الجنوب البائس أصوات الناخبين اعتمادا على برامجها التي ترى في اللاجئين والمهاجرين شرا مطلقا يجب القضاء عليه، وما المرشح الأمريكي ترامب إلا نموذجا يراد تعميمه لدى الجميع، حتى يكون لكل دولة متحضرة ترامب يتصدى للغول القادم من وراء البحار والمحيطات.
وهنا تحضر لندن، وهي أقدر على استيعاب ما لم تستوعبه أخواتها في القارة العجوز، رغم أنها تضررت كثيرا بالأعمال الإرهابية إما بشكل مباشر بضربات موجعة كما حدث  في لندن في تفجيرات يوليو/ تموز 2007، أو بشكل غير مباشر من خلال استهداف رعاياها في بلدان أخرى.
والحقيقة التي تحضر بقوة هنا وفي هذه الظروف تشير إلى أن بريطانيا تتموضع في وسطية تحسب لها، وهذه الوسطية امتداد لقرون طويلة من الحراك الثقافي والفكري والسياسي والنزاعات الداخلية والخارجية، وقد أفضت إلى جعل المملكة تتبوأ مكانا مميزا في تعاطيها مع ملفات الداخل والخارج، وعلى ما فيها من انحياز يبدو مستفزا في بعض المراحل والمحطات التاريخية وفي كثير من القضايا والمواقف، لكن حسمها الإيجابي لقضايا الحقوق والحريات والمواطنة وكبح جماح التعصب والتطرف الآخذين في التمدد راسيا وافقيا يحسب لها ولتجربتها العريقة في احتواء أمم وقوميات وجنسيات وديانات ومذاهب مختلفة، في الوقت الذي لا تزال بلداننا تئن تحت وطأة التمييز العرقي والتعصب المناطقي والتناحر السياسي والاقتتال الطائفي والنزاعات المذهبية المدمرة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *