من وحي الألم نكتب

 

 

تحاول أن تقول شيئا يخصك، أو تكتب شيئا عن نفسك، عن آمال نسجتها في لحظات متفائلة، وذكريات تعني لك الماضي كله بحلوه ومُـرّه، ثم تجد الظروف من حولك تقودك للكتابة عنها بعيدا عن ذاتك، والتحدث باسمها أو ببعض منها وليس لك من الأمر شيء، وتحت وطأة تلك الظروف وبضغط منها، يصبح ما تبوح به تقريرا يوميا بائسا، يشبه الحديث عن أحوال طقس جامدة لمحيط هادئ أو قارة متجمدة.

تسعى لكتابة دعوة للتعايش والمصالحة، فتخبرك رائحة البارود التي تسمم الأجواء أن لا جدوى من ذلك، فلا يزال الوقت مبكرا على ما تدعو إليه، ولا يزال في ترسانة المتحاربين حولك ما يكفي لبعثرة محاولتك أو إقناعك بتأجيلها حتى إشعار آخر على الأقل.

وكثيرا ما تصاعد دخان الحرائق ساخرا من كل بارقة أمل للسلام والسكينة، تلوح هنا أو هناك، وينبئك أن لا عاصم من الغرق في لُجّـة السجال اليومي اللامتناهي، السجال الدامي الذي يبدأ ولا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، سجال عنيف يحصد كل شيء أمامه ووراءه، يسقط الكل فيه ضحايا لجُـناة مجهولين يعرفهم الجميع.

ربما تحاول أن تتجنب الحديث عن وجع يطاردك ككابوس، فلا تجد غير الأشباح تحيط بك، وربما تحاشيت النظر إلى كومة خراب وجدتها أمام ناظريك، فلا يقع بصرك إلا على كومة أخرى من خراب آخر.

إنها أوجاع جيلنا التي ورثها عن أجيال سابقة، مسائل لم تتم تسويتها بعد، ومآسٍ استوت على سوقها وأينعت آلاما لا تعد وخسائر لا تحصى، وقــدّر علينا أن نقتات منها أو تقتات منا.

في روايتها الأثيرة “قواعد العشق الأربعون”، لاحظت الكاتبة التركية إليف شافاق أن “القرن الحادي والعشرين لا يختلف كثيرا عن القرن الثالث عشر، وسيدون في التاريخ أن هذين القرنين كانا عصر صراعات دينية إلى حد لم يسبق له مثيل، وعصر ساد فيه سوء التفاهم الثقافي، والشعور العام بعدم الأمان والخوف من الآخر..”.

وكما شهد القرن الثالث عشر حروبا عدة، دينية وسياسية وحملات وغزوات من الشرق والغرب، لم يخل قرننا الحاضر مما يماثلها، أو يفوقها في كثير من الحالات، شهد الأول بعضا من الحروب الصليبية وخطب جورج بوش الابن مطلع قرننا الراهن “إنها حرب صليبية”، وعلاوة على ذلك فإن بغداد سقطت في كلا القرنين، منتصف القرن الثالث عشر في أيادي المغول 1258، كما سقطت مرة أخرى بداية هذا القرن 2003، ناهيك عما شهده القرنان من صراعات داخلية بينية في أكثر من منطقة وأكثر من بلد، ولا تزال هذه الأخيرة على أشدها في مختلف أقطار المنطقة التي باتت تـُعرف بـ”الشرق الأوسط”.

  هل تستنزف قوى الحرب وأطراف الصراع أدواتها وقدراتها، ومن ثم تبدأ في البحث عن السلام؟ أم أنها لا تزال على أهبة الاستعداد لخوض المزيد من الحرب والمزيد من الصراع سعيا من كل طرف لإبادة خصومه ومحوهم من الخارطة؟

ليس بمقدور الحوار أن يوقف هذا الجنون ما دام هناك من يعتقد أن الحرب تحقق له المكاسب، ولا يمكن القبول بالحوار إلا إن كان هذا الحوار بمثابة استراحة محارب لا تلبث أن تنتهي كما بدأت، ثم يعود كل طرف إلى خنادقه وبنادقه سالما من أي التزام أخلاقي يمكن أن يحول بينه وبين العودة إلى دوامة الحرب.

 غير أن ثقتنا أن إرادة السلام ستنتصر على كل أمراء الحروب، لأن السلام هو خيار الشعوب التي تدفع كُـلفة الحرب من دمائها ومصالحها وأمنها وحقوقها الأساسية وحرياتها العامة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *