“دَمْـت” اليمنية والمقاوَمَـة.. التاريخ يعيد نفسه

 

 

 

 

“لن ننام.. وفيك مقبرة وليل

ووصية الدم لا تساوم

ووصية الدم تستغيث بأن نقاوم

أن نقاوم..”

درويش

 

قيل إن “التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل ملهاة ومرة أخرى على شكل مأساة”.

لكنه في مدينة دمت الواقعة وسط اليمن، يعيد نفسه كل مرة على شكل مقاومة تشتعل كلما تعرضت للغزو من الجحافل القادمة من الهضبة الشمالية الأكثر سوادا في التاريخ، والبقعة الأكثر ظلاما في الجغرافيا.

ظلت المقاومة ماركة مسجلة باسم دمت منذ اشتراك المئات من أبطالها في فك حصار السبعين على العاصمة صنعاء، يقودهم كوكبة من أبرز رجالات الحركة الوطنية اليمنية الذين سجلوا صفحة مضيئة في التاريخ، وهم يردون تيار الغزو البربري على أعقابه، ويحررون صنعاء وأهلها من هجمات البغي المتخلف.

لم يطل الوقت حتى سارعت قوى البغي ذاتها لمهاجمة دمت بداية السبعينيات، وكانت حملتهم المحملة بالسلاح والغدر والحقد والجهل، بقيادة شخص يدعى “النوفي”، الذي تعهد لأسياده تحت أقبية الكهوف السوداء، بكتم أنفاس أبناء دمت إلى الأبد.. وقال حينها كلاما بذيئا ينمّ عن شخصية موغلة في الانحطاط، لكنه حين وصل لم يسمع إلا صرخة واحدة مدوية وبصوت واحد:

“مقاومة يسمع بها النوفي …………….”،

وأدرك ان ما قاله عن المدينة من تهديد ووعيد قد وصل إليهم قبله، وبدأت المواجهات وهو يظن ان حملته قادرة على إسكات صوت الحق والحرية الذي انطلق مدويا في ضفاف وادي بناء، وعلى مقربة من براكين دمت الملتهبة، ولكنه في اللحظة الحاسمة أيقن بالهزيمة، وحاصرته المقاومة في وكره ولم يخرج منه إلا متنكرا في ملابس النساء، وكان هذا درسا قاسيا له ولجميع إخوانه في الحقد والهمجية.

ومنذ تلك الواقعة باتت المقاومة الشعبية تتصدى لمواجهة حملات الموت القادم من الهضبة، سواء كانت تحمل لافتة الدولة او ملامح القبيلة، علم الدولة المعتلة او سعار الطائفة المسعورة.

ظلت دمت تقاوم وتقاوم..

وفي تلك المرحلة قدمت الشهداء قوافلا في طريق النور ودرب الحرية، ولسان حالهم ما قاله يوما أحدهم قبيل استشهاده:

قال أبو كوبا من الموت ما خاف    والرفاق متمسكين بالقضية

دمّنا مسكوب في كل الأشراف   لاجل صنعاء تعرف ايش الهوية

 

وكان المناضل البطل/ عبدالله القاضي يقف في رأس الكوكبة النبيلة، يتقدم الصفوف بشجاعة واقتدار،

وهاهو اليوم يعود للواجهة بعد ما اشتعلت مراجل الحقد والفجور، في صدور كائنات الليل وجيوش البغي، الخارجة من كهوف الخطيئة ومجاهل الظلام.

يقف القاضي في المقدمة/ موقعه الشاغر منذ ثلاثين سنة.

وحوله المقاومة الشعبية كما كانت حوله قبل ثلاثين عام.

وتقف دمت في الواجهة/ بمواجهة الزحف ذاته، الذي كان يحوم حول دمت قبل ثلاثين عام،

قبل قرن وثلاثين،

قبل ألف سنة وثلاثين عام.

ودمت تقاوم وتقاوم، بكل ما فيها، وكل من فيها،

بأحيائها وأشيائها، تواجه الصلف العنصري والسلالي المهين.

تقف في مواجهة آلة القتل وأدوات الجريمة،

في مواجهة قتلة لا يعرفون من الأخلاق إلا أن يكونوا منحطين في قعر الانحطاط

وسفلة في أدنى دركات السفالة.

إنها تواجههم بأجود ما فيها..

بالشهداء الذين يحملون قبضة من ترابها ويمضي كل منهم إلى السماء،

تاركا الراية لـ”رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه،

ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا”.

اليوم قدمت دمت كوكبة من شهدائها الأبرار، كما قدمت مثلهم بالأمس وقبل قبل الأمس.

وستجود بمثلهم غدا وبعد بعد الغد..

اختار الله إلى جواره اليوم الشهداء نايف الجماعي، باسل عبدالله القاضي، بدر العودي، حميد العودي، توفيق الحجاجي. مضوا قناديلا من ضوء وشموسا من طهارة.

ولدمت في سجل الكرامة سجل خاص بما قدمت وتقدم، فهي قاومت وستظل تقاوم، وهذا قدرها ومصيرها.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *