“الهويات القاتلة” تمزق اليمن

 

مقالي في الصحيفة الإلكترونية “رأي اليوم”

كل المؤشرات والدلائل في اليمن، وآخرها مغادرة البعثات الأجنبية وإعلاق السفارات، تقود إلى شيء واحد: اليمن يتمزق، بعد سيطرة جماعة الحوثي على الأوضاع بشكل انفرادي وبطريقة مسلحة تستقوي بالعنف وتعتمد القتل والتصفيات والاقتحام والحصار مفردات أثيرة في تعاملها مع بقية الأطراف.

كانت الجماعة الشيعية المسلحة تنطلق من مفهوم “الدفاع عن هوية الطائفة الزيدية”، من الاستهداف الرسمي من قبل السلطة، لكنها بعد ما غادرت محيطها الجغرافي في أقصى الشمال، باتت تتحدث عن “الدفاع عن الهوية اليمنية” من مخاطر الوصاية الأجنبية والقاعدة وداعش والعملاء، والتكفيريين، والمفردات السابقة ليست حصرا على قوى بعينها لكنها قابلة لأن تلصق بأي طرف أو شخص يعارض رغبة الحوثيين في السيطرة على البلد، دون أن تكف عن ترديد شعارها “الموت لأمريكا – الموت لإسرائيل”.

في المرحلة الأولى عندما كان الحوثيون محاصرين ومقموعين في إحدى مناطق صعدة، كانوا يرون في استهدافهم استهدافا للهوية الزيدية، رغم أن غالبية الطائفة لا يوافقونهم ذلك، وفي المرحلة التالية، أي بعد مغادرتهم صعدة وسيطرتهم على العاصمة والمحافظات باتوا ينظرون إلى كل من يخالفهم الرأي باعتباره عدوا لليمن، وعميلا للخارج وتحديدا السعودية وأمريكا، دون أن يروا في ارتباطهم بإيران ودعمها لهم انتقاصا من يمنيتهم. ما يعني أنهم في الحالتين والمرحلتين يدافعون عن “هوية” تجاه ما يهددها من مخاطر، هم أنفسهم من يحدد هذه المخاطر ويقرر من هم الخصوم، حسبما تقتضيه حاجة الجماعة لتحقيق مكاسبها، وهم في كل ذلك يدافعون عن “هوية” مفترضة.

وفقا للكاتب العربي أمين معلوف، صاحب كتاب “الهويات القاتلة”، فإن “الهوية صديق مزيف، تبدأ بالكشف عن تطلع مشروع، وتصبح فجأة أداة حرب”، وهذا يشبه حال الجماعة الحوثية حين بدأت دفاعها عن هوية طائفتها إزاء التهميش الذي تعرضت له في فترة زمنية سابقة، بتطلعات ربما تكون مشروعة، لكنها – فيما بعد- تحولت إلى أداة حرب، كما هو حاصل منذ العام 2012 حين شرعت الجماعة تتوسع خارج محيطها الجغرافي وبقوة السلاح واعتمادا على كونها تعرضت للحرب والعدوان في السنوات الماضية، وكلما ندد طرف سياسي بالتمدد الحوثي المسلح اتهمته الجماعة بالمشاركة في استهداف الطائفة ومنطقتها الجغرافية، وهذا ما قال معلوف أنه “الانزلاق من جهة إلى أخرى”.

مؤخرا أقدمت جماعة الحوثي على محاصرة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وغالبية الوزراء، ما دفع الرئيس والحكومة للاستقالة، وفيما كان ينتظر اليمنيون أن يثوب المسلحون إلى رشدهم أو يتغلب صوت العقل لدى مسئوليهم فيعملوا على تدارك الأمر، ويتواصلوا مع المكونات السياسية لوضع حلول ومعالجات تحظى بالقبول، سارعت الجماعة لإذاعة ما وصفته بـ”الإعلان الدستوري”، الذي ألغى العملية السياسية برمتها وأجهز على الحوارات والاتفاقات والتفاهمات التي أبرمتها القوى السياسية– بما فيها ممثلي جماعة الحوثي- ورغم رفض غالبية الأحزاب والسلطات السياسية والمحلية للإعلان إلا أن الجماعة تسعى لفرضه على الجميع وبقوة السلاح واستخدام العنف وقمع كل من يعارضها.

والمؤكد أنه لولا ضعف أجهزة الدولة وتشظي الجيش لما تمكن مئات المسلحين من السيطرة على الأوضاع بهذه السهولة، إلا أن ارتكابها لأعمال عنف وصلت حد القتل وتفجير المنازل والمساجد واقتحام المؤسسات العامة والخاصة ونهبها، أثار عليها سخطا شعبيا أخذ يتنامى يوما بعد آخر.

وبالإضافة لما يبدو عليه الوضع حاليا في اليمن، من سيطرة مسلحي الحوثي على الدولة، فإن للمشكلة بعدا آخر غير أبعادها الأمنية والسياسية، وهو على قدر من الخطورة، ذلك أن الجماعة الحوثية تنتمي الطائفة الزيدية (الشيعية)، وتتحرك الآن بقوة السلاح المنهوب من مخازن الجيش في وسط وشرق اليمن، وهي مناطق معروفة بانتمائها للمذهب الشافعي (السني)، وفي حال أصر الحوثيون على التمدد نحوها، فإن احتمال نشوب حرب أهلية ذات أسباب وخلفية مذهبية لن يكون بعيدا، ناهيك عن أن تمدد الحوثيين يمنح تنظيم القاعدة الذي يحظى بوجود قوي في بعض مناطق اليمن، شرعية لحربه ضد ما يصفه قادة التنظيم بـ(الخطر الشيعي)، وهو ما بدت مؤشراته واضحة عبر سلسلة من الهجمات التي استهدفت الحوثيين في أكثر من محافظة يمنية.

وهنا تحضر الهويات مرة أخرى، الهويات الضيقة التي تتوسع يوميا بفعل الصراع الذي أخذ ينحو منحى خطيرا، ذلك أن الهويات التي تتعرض للمخاطر تصبح أكثر تحفزا للمواجهة، وهو ما بدأنا نراه ونسمعه من خلال اصطفافات سنية لمواجهة الشيعة، أو شافعية ضد الزيدية، أو جنوبية في وجه الشمال.

وبحسب أمين معلوف فإن الناس حين يرون أنهم مهددون في عقيدتهم فإن الانتماء الديني هو الذي يختزل هويتهم كلها، وما ينطبق على العقيدة ينطبق على اللغة والمذهب وغيرهما.

وفي تفسيره لما ينشأ من صراعات على أساس الهويات، يرى معلوف أن “كل جماعة إنسانية مهما كان شعورها بالاضطهاد أو الخطر ضئيلا، ستميل إلى إنتاج قتلة يرتكبون أسوأ الفظاعات مقتنعين أنهم على حق”.

بعد ساعات من سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء، واقتحام المؤسسات الحكومية ونهب بعض محتوياتها من أسلحة ووثائق وأموال، سألت مذيعة إحدى القنوات الفضائية الناطق باسم الحوثيين عن سبب اجتياح جماعته صنعاء فقال: من أجل الدفاع عن الثوار، وهو يقصد بالثوار مئات المسلحين الذين اجتاحوا المدينة، لكنه لم يكشف عن الخطر الذي كان يهدد “الثوار” لو أنهم جنبوا صنعاء هذا الاجتياح.

يهاجم الحوثيون بالأسلحة عددا من المناطق اليمنية، وكلما طرح عليهم السؤال: لماذا؟ جاءت الإجابة شبه موحدة: ندافع عن أنفسنا!!

وكأن أمين معلوف الذي نشر “الهويات القاتلة” في تسعينيات القرن الماضي، كان يستمع لأحد الحوثيين، وهو يكتب السطور التالية: “إذا كانوا يشعرون أن الآخرين يشكلون تهديدا لهم، فكل ما يستطيعون القيام به من أجل رد هذا التهديد يبدو لهم مشروعا تماما، حتى عندما يصل الأمر إلى حد ارتكاب المجازر يكونون مقتنعين أن الأمر يتعلق بإجراء ضروري من أجل الحفاظ على حياة أقاربهم”.

والخلاصة أن هذه الهويات التي تتوسع يوميا على حساب الهوية الوطنية الجامعة باتت في الوقت الراهن تشكل خطرا على البلد برمته، في أمنه واستقراره، كما في حاضره ومستقبله، إلى الحد الذي يصدق معه وصفها بـ”الهويات القاتلة”، وهو ما استنتجه معلوف الذي كان شاهدا على اندلاع الحرب الأهلية في بلده لبنان، لكنه لم يقتصر في استنتاجه القيم عليها، بل استحضر حالات كثيرة عابرة للزمان والمكان، تتشابه في أسبابها دوافعها وإن اختلفت في نتائجها وأعداد ضحاياها.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *