اليمن: حروب ما بعد الدولة

 

اليمن بين القاعدة و الحوثي

في الليلة التي سقطت فيها العاصمة صنعاء، ومعها مؤسسات الجيش والأمن والمباني الحكومية والمواقع العسكرية في قبضة ميليشيا طائفية مسلحة، اعتقد كثير من اليمنيين، -ومعهم الحق في ذلك- أن مرحلة بالغة السوء والخطورة وشديدة الانحدار بدأت نذرها الكارثية شاخصة أمام الجميع.

لم تبلغ الدولة اليمنية للضعف الذي بلغته في تلك اللحظة، ولم يصل اليمنيون لليأس والانهيار كما بدوا عليه في تلك الليلة وهم يرون عصابات الحوثي المسلحة يقتحمون المنازل وينهبون الممتلكات ويعتدون على الحرمات بشكل كشف ما حاولوا تغطيته من سقوطهم وانحطاطهم.

اعتقد الرئيس هادي ومعه بعض مساعديه أن ظهوره وهو يوقع مع الحوثيين اتفاق السلم والشراكة بعد ساعات من سقوط العاصمة في أيادي مسلحيهم، سيستر عورته وهو يظهر عاريا من كل ستر، لكن عار السقوط كان هو الملمح الأبرز في وجهه وهيئته، حتى وهو يحاول تسويق نبأ التوقيع على الاتفاق في قاعة منعزلة في مبنى الرئاسة المحاط بميليشيا الحوثي، بشيء من الزهو والانتصار المنقوص، فإن صفرة الهزيمة نالت منه وغلبته.

ما حدث في صنعاء من سقوط مفاجئ لمؤسسات الجيش والأمن بذلك الشكل المثير للتساؤل و المخاوف في آن معا، ليس سوى مقدمة لما سيأتي بعده من مخاطر وانتكاسات لن تقف في مكان دون آخر، ولن تقتصر على مشهد واحد أو جبهة واحدة، فالميليشيا التي احتفلت بانتصار (ثورتها) ظلت أطماع سيدها تكبر وتكبر، وجموحه الهائج بدا في أشد حالات جنونه المرضي، ومن يومها وهو يتحدث بصفته حاكما مالكا، والبقية مجرد بيادق ودمى تتحرك حسب رغبة محركيها لا أكثر. وهو الوصف الذي أطلقه زعيم الحوثيين على الرئيس هادي في خطاب تحريضي مطول.

إن كان للحوثيين مشكلة مع قبائل حاشد، فما علاقة أبناء الحديدة في هذه المشكلة حتى يسارع الحوثيون لاحتلالها والسيطرة عليها؟

لو كانت مطالب الحوثيين تتمثل في محاربة الفساد كما يزعمون، فلماذا تركوا رمز الفساد الحاكم ثلاثين عاما، بل سارعوا لحراسته وتأمين حمايته؟

السؤال الأكثر أهمية هنا وفي هذه اللحظة بالذات: ما الذي يريده الحوثيون من محافظات الوسط (إب وتعز والبيضاء)؟ ودعكم من مبرراته السخيفة حين يزعم أنه يحارب القاعدة والدواعش، لسبب بسيط أنه ليس من مهامه أن يتصدى لمثل هذه الجماعات في الوقت الذي يشكل الحوثيون عصابات تحمل من نوازع الإجرام و القتل والنهب والتفجير أضعاف ما تفعله القاعدة، وفي ما قاموا خلال أقل من عام منذ خروجهم من صعدة وحتى وصولهم صنعاء وعمران يؤكد ذلك.

كلما في الأمر أن الحوثي لديه مجموعة مسلحة قادرة على التسلل من الثغرات والفجوات التي خلفها ضعف الدولة وهشاشة بنائها العسكري و الأمني، وبالتالي سعت هذه المجموعة لمهاجمة المواقع ونهب الممتلكات والاعتداء على كل من يخالفها باعتباره “قاعدة”، حتى لو كان هذا الخصم هو القاعدة نفسها، كما يحصل في المناوشات الأخيرة التي شهدتها مناطق في البيضاء، فإن الحوثيين لم ولن يكونوا على حق، لأن الجهة المخولة بمواجهة القاعدة هي الدولة مهما بلغ ضعفها والجيش مهما كان وضعه، بالإضافة لأحقية أبناء المناطق المتضررة من تواجد القاعدة في مواجهتها حيث أثبت وجود لجان شعبية من أبناء المناطق نفسها نجاحا في الحرب على القاعدة، أما أن يتقاطر مسلحو الحوثي من شمال الشمال إلى مناطق أخرى بدعوى مواجهة القاعدة فهذا دليل على أن الجماعة تنظر لنفسها باعتبارها دولة وجيش وقضاء وأمن وكل شيء، وعلى الآخرين القبول بالوضع الذي تفرضه عليهم باعتباره أمرا واقعا، وإلا فإنهم إرهابيون وداعشيون!

مواجهة الحوثيين مع القاعدة مهما كانت جرائم الأخيرة هي تعبير آخر عن انهيار كامل للدولة بمعناها الوجودي، ولا يحدث مثل هذا الصدام إلا في بلدان أصبح وجود الدولة فيها في حكم المنعدم، كما هو حال الصومال والعراق وسوريا، مع قناعتنا أن الحرب بين الطرفين إذا لم تهدد حياة الأبرياء فهي نتاج طبيعي لأمراء حرب يختلفون في المذهب ويتفقون في القتل والاعتداء، وفي خلاص اليمنيين من كليهما فرصة لا تقدر بثمن في إرساء دولة جديدة لا مكان فيها للعصابات التي ترتكب الجريمة باسم الدين والدين بريء منها.

قد يستغل الحوثيون اسم القاعدة كمبرر لتوسعهم في مناطق لا يربطهم بها أي رابط، وفي المقابل تستغل القاعدة كونها تواجه (الروافض) في استمالة قبائل ومناطق سنية شافعية لن ترحب بأي تواجد حوثي مسلح على أراضيها مهما كانت مبرراته، ومن كلا الخطابين التحريضيين ستتوقد نار الحرب وتزداد اشتعالا، كما أن هذه الحرب إن لم تتوافر الظروف لوقفها فلن تعدم مبررات ودوافع أخرى.

وعودا على بدء: إن سقوط الدولة وانهيار جيشها وفر ظروفا ملائمة لصراعات قادمة لا تعني اليمنيين في شيء، حتى وإن شارك فيها يمنيون، كما هو الحال في الحرب التي يكون طرفاها القاعدة والحوثيون، وفي المقابل فإن السقوط ذاته يحتم على اليمنيين الدفاع عن أنفسهم كل بطريقته وحسب ظروفه وإمكاناته، وإن مهاجمة الحوثيين لبعض المناطق بمبرراتها الواهية لا تمنحهم حق التواجد في أي منطقة يمنية غير مناطقهم التي قدموا منها، وبالتالي فمن الحق الطبيعي لأبناء هذه المناطق أن يواجهوا عنف الحوثيين وهمجيتهم بما يتناسب معها، وكذلك الحال بالنسبة للقاعدة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *