الصراع السياسي يؤخر بناء الدولة في اليمن

 

الصراع

يدرك المتابع للأحداث في اليمن أن الصراع السياسي وقف حائلا بين اليمنيين وبناء دولتهم الوطنية رغم مرور أكثر من خمسين عاما على إنجازهم ثورتين إحداهما في شمال البلاد أسقطت حكم الإمامة في سبتمبر/أيلول 1962، وأخرى في جنوبها أفضت إلى الاستقلال الوطني (أكتوبر/تشرين أول 1963- نوفمبر/تشرين ثاني 1967).

وشهد شطرا اليمن الشمالي والجنوبي جولات من الصراع السياسي خلفت آلاف القتلى والجرحى والمشردين والمفقودين، وتركت آثارها المأساوية ظاهرة على مستوى الحكم والسياسية كما هي على مستوى الحياة المعيشية، فضلا عن تردي الخدمات الأساسية وضعف الأمن وتدني مستويات الوعي والثقافة والتربية والتعليم وغيرها.

بالنسبة لشمال اليمن فإن الفترة الزمنية التي أعقبت قيام الثورة شهدت أكثر الحروب عنفا ودموية ودمارا، ابتداء بحرب ضروس بين النظام الجمهوري الذي كان في طور التشكل من جهة،  والقوى التابعة للنظام الملكي المدعومة من السعودية من جهة ثانية، واستمرت الحرب زهاء ثمان سنين ولم تتوقف إلا بعد توقيع اتفاق بين الطرفين، رأت فيه بعض قوى الثورة انقلابا على النظام الجمهوري ومؤامرة عليه، ما أسفر عن انقسام القوى المحسوبة على الثورة، لتبدأ جولة أخرى من الصراع السياسي، لكنها هذه المرة داخل الصف الجمهوري الذي وجد نفسه مقسوما بين قوى “محافظة” وأخرى “يسارية وقومية تقدمية”، وكل طرف يحمل الثاني تبعات الإخفاق الذي ظل يلازم أداء حكومات الثورة في الاقتصاد والمعيشة كما في الأمن والسياسة.

وإلى جانب عوامل الفكر والإيديولوجيا التي أججت الصراع بين قطبي الجمهورية في شمال اليمن، حضرت عوامل وأسباب لها صلة بالجغرافيا والمذهبية والتبعية للقوى الخارجية عربية كانت أوأجنبية،

وتناسلت صراعات عديدة من أتون الصراع الواحد، كما توالد من رحم الحرب أكثر من حرب، وجاءت الانقلابات العسكرية باعتبارها وصفة العصر السحرية لتخليص البلاد من مشاكلها، لتشهد اليمن في شطريها ثمانية انقلابات كانت تطيح برئيس وتأتي بآخر لا يلبث إلا أن يجد نفسه يغادر السلطة – والحياة أحيانا- بالطريقة التي جاء بها.

وباستثناء الإطاحة برئيسين في الشمال (السلال 1967 والإرياني 1974 وثالث في الجنوب (عبدالفتاح إسماعيل 1980) فإن بقية الانقلابات اتسمت بالعنف والدموية ورافقتها أعمال قتل وتصفيات ألحقت أضرارا بشرية ومادية هائلة.

وفيما كان حكام اليمن الشمالي يشعرون بالغبطة لأنهم كسبوا المعركة على حساب خصومهم من اليساريين والماركسيين كان نظراؤهم في الشطر الآخر من الوطن، يتباهون بانتصارهم على قوى “اليمين الرجعي”، في أكثر من خمس دورات دامية جعلت الطبقة الحاكمة مطمئنة لاستفرادها بالسلطة بدون خصوم، ومع أن الفترة الزمنية الممتدة بين الثورة والوحدة (1962-1990)، لم يشهد فيها شطرا اليمن استقرارا مرجوا إلا أنها لم تسلم من الحروب الشطرية أيضا، إذ اشتعلت حرب الحدود بين الطرفين قبل أن توقفها جهود عربية أسفر عنها توقيع الطرفين على “اتفاق القاهرة” في أكتوبر/ تشرين 1972 ثم “بيان طرابلس″ في نوفمبر/ تشرين ثاني 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في العام 1979 التي أوقفت هي الأخرى برعاية عربية أفضت إلى التوقيع على “اتفاقية الكويت” في مارس/آذار 1979 بين رئيسي الشطرين.

وحين طوى اليمنيون صفحة التشطير والتجزئة مع إعلان الوحدة بين شطري الوطن في مايو/أيار 1990، عدّوا ذلك إيذانا بالخلاص من ويلات الحروب والصراعات، بيد أنه لم يكد يمر عليهم سوى بضعة أشهر حتى عاود شبح الصراع ظهوره من جديد، ووجدوا أنفسهم في أتون دورة أخرى من المواجهات وجولة أخرى من الحروب أرهقت كاهل البلد المثقل بالمواجع وأضافت حلقة أخرى لسلسلة فجائعه، وصفحة جديدة في سجل مآسيه وانتكاساته، وعلى هامش الصراعات الكبرى التي أنشبت أظافرها في الجسد اليمني حتى أثخنته، كانت تنشب بين الحين والآخر معركة هنا أوهناك، تارة تحت لافتة الولاء السياسي وتارة أخرى بدافع  الانتماء القبلي والعشائري،  وظل الصراع يأخذ أشكالا عديدة لكن النتيجة كانت واحدة: مزيد من الضحايا والخسائر البشرية والمادية، وضياع الموارد وإهدار الطاقات وتبديد الثروات، مع تخلف في الإدارة واستلاب للإرادة أضاعا  فرصة بناء “الدولة الوطنية”، لينتج عن ذلك  تدهور في الاقتصاد والمعيشة رفع نسبة الفقراء ووسع دائرة البطالة، وصاحب ذلك كله تراجع في ممارسة الديمقراطية، ومصادرة للحقوق، وتضييق على الحريات، ناهيك عن وصول القوى السياسية في الحكم والمعارضة لطريق مسدود أصبح معه الاتفاق غير ممكن والحوار شبه مستحيل، الأمر الذي جعل غالبية الشعب والشباب في المقدمة يخرجون إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط النظام، مستلهمين من ثورتي تونس ومصر دروسا عملية لا تقبل التأجيل أوالتسويف، فكانت ثورة فبراير 2011.

وبدورها أفضت الثورة اليمنية إلى تغيير جزئي في نظام الحكم، وفقا لاتفاقية “نقل السلطة” التي وقعتها الأطراف السياسية في نوفمبر/ تشرين ثاني 2011 وقضت بتنحي الرئيس وتنصيب نائبه وتشكيل حكومة مناصفة بين السلطة والمعارضة، ودخلت البلاد في مرحلة انتقالية كشفت عن التناقض بين قوى الثورة التي وجدت نفسها متفقة على “إسقاط النظام” ومختلفة على ما عداه من المطالب،

ومع أن قوى الثورة اليمنية ومكوناتها السياسية وروافدها الشعبية آثرت العمل مجتمعة على تحقيق أهداف الثورة وفي مقدمتها إسقاط النظام وبناء الدولة الحديثة، وتأجيل الخوض في تناقضاتها الفكرية والسياسية والمذهبية والجهوية، غير أن الظروف والملابسات الداخلية والخارجية قادت اليمنيين جميعا -بعد عشرة أشهر من انطلاق ثورتهم- إلى القبول بتلك الاتفاقية التي جاءت كتسوية سياسية أبقت على نصف النظام الذي ثاروا عليه شريكا رئيسا في الحكم، فضلا عن منح رئيسه وكبار مساعديه حصانة من المساءلة القانونية عن ممارساتهم خلال ثلث قرن من الزمن، هي فترة حكم الرئيس/ علي صالح المشمولة بالحصانة حسب اتفاقية نقل السلطة المعروفة بـ”المبادرة الخليجية”، نسبة لرعاة الاتفاقية في مجلس تعاون دول الخليج العربي.

وكان التوقيع على المبادرة أول منعطف أسفر عنه انقسام قوى الثورة بين مؤيد للاتفاقية ومعارض لها بسبب ما تضمنته من بنود رأى المعارضون أنها تنتقص من الثورة، بيد أنه لم يكن انقساما حادا بفعل انحياز الغالبية العظمى نحوالخيار الأول  والقبول به كأمر واقع، وخيار يجنب البلاد مخاطر الحروب والصراعات، خاصة وأنه تزامن مع توسع المواجهات المسلحة في ليبيا وارتفاع أعداد ضحايا الصدامات المماثلة في سوريا.

وما إن بدأ شركاء الحياة السياسية تنفيذ اتفاقية نقل السلطة حتى بدأ الفرز في صفوف الثورة يأخذ أبعادا هي للمنطلقات الفكرية والاعتبارات الجهوية أقرب منها للمواقف السياسية وتحالفات الثورة، وظل هذا الفرز يتنامى ويتخذ أشكالا عديدة مع ما بات يرافقه من استقطاب يهدد أمن البلد واستقراره.

ولم يعد موضوع الصراع بين القوى والتيارات اليمنية الفكرية والسياسية مجرد مؤشرات يمكن ملاحظتها والوقوف عليها في إشارات عابرة أوتلميحات غير ظاهرة، لكنه غدا حقيقة يعيشها اليمنيون في أكثر من منطقة، من خلال صراعات ومواجهات مسلحة ترتدي عباءة الصراع المذهبي في شمال البلاد، وتتخذ من التمايزات الجهوية والمناطقية مبررا في جنوبها، لكنها في كلا المشهدين لا تخفي العامل السياسي مهما أمعن في التخفي.

والأنكى أن هذا الصراع -لدى بعض أطرافه- يتغيا العودة إلى الماضي بصور متفاوتة وأشكال مختلفة، إما بالعودة لما قبل الثورة الأولى ضد الحكم الملكي الإمامي مطلع ستينيات القرن الماضي، كما هوالحال لدى الجماعات المسلحة شمال البلاد، أوبالعودة إلى ما قبل الوحدة اليمنية التي جمعت شطري الوطن عام 1990، كما تطالب جماعات انفصالية في الجنوب، ناهيك عن ما تسعى إليه قوى ومكونات أخرى من إعاقة التغيير وعرقلة الانتقال السلمي للسلطة بشكل كامل، والمحصلة في كل ذلك الإبقاء على الدولة ضعيفة وعاجزة وفاشلة، وتلك معضلة اليمنيين الكبرى، التي تسعى للحؤول دون صناعة المستقبل المنشود الذي كان – ولا يزال حلما مؤجلا منذ ما يزيد عن نصف قرن، والمؤكد اليوم أن التحديات التي تواجه التحول الديمقراطي في اليمن لم تعد هما يمنيا خالصا، سيما بعد ما أصدر مجلس الأمن الدولي أواخر فبراير/ شباط الماضي قراره رقم (2140) الذي أفرد فيه بنودا عدة تلوح بالقيام بإجراءات عقابية تطال معرقلي العملية السياسية وتندرج تحت الفصل السابع، الأمر الذي سيجعل المعرقلين- أشخاصا أوهيئات- في مواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي، بعد ما بدا واضحا أن قدرة اليمنيين على تحمل تلك التحديات، فضلا عن مواجهتها والتغلب عليها لم تعد موضع ثقة، ويكشف ارتياح أغلب اليمنيين للتلويح الأممي بمعاقبة المعرقلين أنهم يشاطرون صناع القرار الدولي الاستنتاج نفسه إن لم يكونوا سبقوهم إليه بسنوات.

 

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *