رفع الدعم عن المشتقات النفطية في اليمن.. عبث حكومي أم شر لابد منه؟

 

 

yamana-2012

 

بعد إعلان الوحدة اليمنية في مايو 1990م بدأ يطرح موضوع “الإصلاح الشامل”، و قصد به الإصلاح المالي و الإداري و “السياسي”، بيد أن نشوب أزمة مفاجئة بين الحزبين الحاكمين حينها (المؤتمر و الاشتراكي) حال دون المضي في تطبيق البرنامج.

لكن الموضوع عاد ليطرح مرة أخرى بعد حرب 1994م، و أقرت الحكومة المؤلفة من حزبي المؤتمر و الإصلاح البدء في تنفيذ برنامج الإصلاح المالي و الإداري، و كان المفترض تنفيذ ربط الإصلاح المالي الذي يقصد به رفع جزء من الدعم عن المشتقات النفطية، بإصلاح إداري يتضمن تعزيز إجراءات الرقابة الحكومية و محاربة الفساد المستشري، كما اشترط ممثلو حزب الإصلاح في الحكومة وقتها.

لكن ما تم تنفيذه في العام 1995م اقتصر على رفع سعر دبة  البترول (20 لتر) من 120 إلى 250 ريال، أما الإصلاح الإداري الذي كان يومها مطلبا ملحا فقد ذهب أدراج الرياح.

و تراجعت الأوضاع الاقتصادية بينما كان المتوقع حسب وعود الحكومة أن تتحسن بعد رفع جزء من دعم المشتقات النفطية بينما توسعت رقعة الفساد و شراء الذمم، فالنظام الحاكم بعد ما تخلص من شريكه في التوقيع على الوحدة أصبح تركيزه في سنوات ما بعد الحرب على التخلص من شريكه الجديد.

و لأن الفساد استمر على حاله فقد ساءت أحوال المعيشة و الوضع بشكل عام ازداد هو الآخر سوءا و عوائد رفع الدعم لم تعد كافية لرفد خزينة الدولة الواقعة تحت سطوة عصابة كانت تسعى لتوسيع دائرة نفوذها و محاصرة خصومها، و هنا أعيد الطرح مجددا عن ضرورة الإصلاحات المالية و رفع جزء آخر من الدعم عن المشتقات النفطية، و طرح المؤتمر على الإصلاح هذه الفكرة لكن الأخير رفض مستندا على تجربة الخطوة الأولى حين ركزت الحكومة على الإصلاح المالي و تركت الإصلاح الإداري.

أعلنت الحكومة في العام 1996م، جرعة ثانية من الإصلاحات المنضوية تحت برنامج الإصلاح الشامل، لكنه غدا في نظر مختصين و خبراء برنامج الإفقار الشامل، لاعتماده فقط على جيوب الفقراء لتعزيز ميزانيته فيما أيادي اللصوص مشرعة لنهب الممتلكات العامة و الخاصة و برضا و مباركة رأس الحكم الذي كان يتباهى بتوسع قاعدته الشعبية على حساب شريكه القديم و في انتظار توسع جديد على حساب شريكه الجديد.

في الجرعة الثانية التي قوبلت باستياء عارم في صفوف المواطنين و لدى الخبراء و المعنيين على حد سواء، ارتفع سعر الدبة البترول من 250 إلى 400 ريال.

و في العام الذي يليه 1997م أجريت الانتخابات النيابية العامة، و حينها قال الرئيس السابق للنظام علي صالح إن عهد الجرع ولى و إلى الأبد، و من يقول أن هناك جرعة فهو مزايد و كذاب.

و مع ذلك فلم يمض العام 1998م إلا على صرخة أوجاع جديدة نتجت عن الجرعة الثالثة التي ضربت عرض الحائط بكل تعهدات صالح و نظامه، و تبين أنه لم يكن هناك كذب و مزايدة في التكهن بإقرار جرعة ثالثة بقدر ما تبين أنه الكذاب و لا غيره، خاص و قد صار سعر الدبة 700 ريال.

غادر الإرياني الحكومة بعد تحميله مسئولية الجرعة و جيء بعبدالقادر باجمال لكن الفساد ظل هو لحاكم المهيمن على كل المؤسسات و المرافق و المواقع الحكومية بينما السخط الشعبي يتزايد يوما بعد آخر و رقعة الفوضى تتمدد يمينا و شمالا على وقع الإخفاق المتوالي ليس في الاقتصاد فقط و لكن في كافة النواحي و المجالات.

كان اعتماد الحكومات المتعاقبة على عوائد بيع النفط بنسبة تزيد عن 70 بالمائة محل انتقاد الخبراء و المنظمات المعنية داخليا و خارجيا، و مع ذلك ظلت اليمن مكتفية بما يعود عليها من بيع النفط خاصة بعد إقدام النظام على بيع الغاز اليمني للاحتكار الفرنسي- توتال و الشركة الكورية الجنوبية، و بسعر زهيد جدا ظل يشكل عبئا على الاقتصاد الوطني لم يلفت له المعنيون بالأمر إلا بعد اندلاع الثورة، و لا يزال الأمر عالقا في بعض جوانبه.

و مع أن صالح و حكوماته تعهدوا مرات كثيرة أن لا عودة للجرع فقد جاءت الذكرى ال28 لتولي صالح سدة الحكم و معها إعلان جرعة جديدة دفعت لأعمال شغب و احتجاجات واسعة في غالبية المدن و المحافظات منتصف يوليو 2005م حينما رفع سعر البترول من 700 إلى 1300، و تم تعديله فيما بعد إلى 1200 ريال.

الوضع بعد الثورة

كان من الطبيعي في بلد يعاني أوضاعا اقتصادية صعبة و سياسية متأزمة و أمنية متدهورة أن يتضاعف الخراب بعد اندلاع الثورة و سقوط أجزاء واسعة من مقومات النظام – و لو شكليا- في كثير من المناطق شمالا و جنوبا و شرقا و غربا على السواء، إما في يد عصابات مسلحة كالحوثيين و القاعدة أو مناطق تخضع للصراعات ذات البعد الاجتماعي و السياسي المحدود أحيانا و غير المحدود أحيانا أخرى كما في كثير من أجزاء البلاد.

و تبع ذلك هجمات متوالية على المصالح الاقتصادية الكبرى بدءا بالنفط و الغاز و ليس انتهاء بالكهرباء و المياه و الطرقات، الأمر الذي ضاعف من تبعات القائمين على الحكم في صيغته الجديدة المستندة إلى المبادرة الخليجية و اتفاق نقل السلطة.

و وجد اليمنيون أنفسهم أمام أزمات متلاحقة كل واحدة منها تمسك بتلابيب الأخرى، و ما تنقضي أزمة إلا على أصوات أخرى قادمة، بعضها كان يفتعل لتحقيق أهداف و مكاسب سياسية جديدة أو للحفاظ على مكاسب قائمة، و بعضها كان لها جذور و خلفية كامنة و تحتاج معالجات جادة و طويلة.

و مع تزايد الأزمات و تلاحقها في السنوات التي أعقبت اندلاع الثورة الشعبية مطلع العام 2011م، إلا أن رفع الدعم عن المشتقات النفطية بصيغته الأخيرة التي أقرتها الحكومة أواخر الشهر الماضي يعد مفصلا حاسما في مسار الوضع الاقتصادي في مرحلة ما بعد الثورة، إما لأنه جاء في توقيته متزامن مع تصاعد أعمال عنف و مواجهات في أكثر من منطقة و تردي خدمات الكهرباء و المياه و الاتصالات، أو لأنه تضمن ارتفاعا في القيمة الجديدة لم تكن متوقعة (أربعة آلاف ريال).

و بعيدا عن السخط المتوقع إزاء كل إجراء مماثل يطرح التساؤل عن جدوى هذا القرار و ضرورته، إن كان ثمة جدوى و ضرورة، و هل كان يمكن تلافي الوصول إلى مثل هذا القرار و العمل بصيغ و بدائل مناسبة؟

يشير الخبراء بإنصاف إلى أن الخيارات أمام الحكومة في الأوضاع و الظروف الراهنة غدت شبه محدودة، خاصة مع تزايد أعمال التهريب التي تستغل فارق السعر بين المحلي و العالمي و عدم القدرة على ضبط المنافذ و المعابر التي تستخدم لمثل هذه الأعمال في ظل ضعف الأجهزة الأمنية و الرقابية، كما و يحضر عامل مهم في الموضوع و يتمثل في تراجع إنتاج النفط بعد ارتفاع وتيرة الاعتداءات على أنابيب و حقول النفط في أكثر من منطقة، و هو ما أدى بالتالي و كنتيجة متوقعة بالضرورة إلى تراجع حصة الحكومة من عوائد بيعه الزهيدة أصلا، و بالمقارنة بين أكثر من ثلاثمائة ألف برميل يوميا كانت تنتج في الفترة السابقة لاندلاع الثورة و قرابة مائة ألف هي إجمالي ما بات ينتج في الوقت الراهن يتجلى الفرق واضحا و كبيرا إلى الحد الذي بات يهدد بكارثة اقتصادية. 

و كانت الميزانية السنوية للعام الحالي 2014 توقعت رفعا محدودا للدعم عن المشتقات النفطية كما يتضح من خلال أرقام و بيانات الميزانية التي أقرها البرلمان، و مع ذلك حاولت بعض القوى السياسية و الميليشيات المسلحة أن تركب موجة الغضب العفوي و الترويج لنفسها كما لو كان لديها رؤية اقتصادية واقعية متكاملة، لكنها انتكست بفعل الوعي الوطني الذي وجد طريقه لشريحة واسعة من المواطنين، حيث أدركوا أن من يسهل عليه قتل الأبرياء و إحراق المنازل و نهب الممتلكات لن يكون صادقا في زعمه الحرص على سعر دبة بترول أو ديزل مهما كان صوته مرتفعا و صراخه لا ينقطع.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *